عندما تذهب الغفلة..

سوف تصحو الجماهير العربية يوماً آجلاً أو عاجلاً، وسوف تذهب الغفلة ولن تستمر إلى الأبد، ولكن ذلك يحتاج إلى جهود متواصلة، وبحاجة إلى مزيد من العرق والدموع، وبحاجة إلى مزيد من التضحيات من الشعوب بكل مكوناتها وشرائحها، وليس من فئة واحدة أو مكون واحد، وإن كان هناك تفاوت نسبي ملحوظ في حجم التضحيات بين فئة وأخرى، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً..
الانقلاب العسكري على الشرعية والدستور، الذي حدث مؤخراً في مصر ينبغي أن يكون محطة مهمة للدرس والعبرة للشعوب العربية كلها، كما يجب أن يكون محلاً للتقويم والتحليل للأحزاب والقوى السياسية والنخب الثقافية والفكرية على اختلاف توجهاتها وانتماءاتها الفكرية والسياسية.
في البدء يجب الاتفاق على وصف ما حدث بأنه انقلاب على الديمقراطية، وتعطيل للدستور وخروج على الشرعية، مع حقيقة الاختلاف حول الأسباب والمبررات والأخطاء، بمعنى آخر أن وجود الأخطاء ووجود المبررات حتى لو كانت وجيهة، أو مقنعة لطرف أو عدة أطراف ينبغي أن لا يقود إلى قلب المفاهيم وقلب معاني المصطلحات من أجل تبرير جريمة تقويض الديمقراطية.
الإسلاميون هم الفئة الأولى المعنية بفهم الحقيقة والوقوف على جوهر الحدث بطريقة علمية موضوعية تبتعد عن المرور السطحي على هذه المحطة التاريخية، الذي يخلو من عمق التحليل وبعد النظر، وشمول التناول الذي يجب أن يستند إلى دقة المعلومات وصحة التخطيط وسلامة الأفكار والأهداف، ومراعاة فقه الأولويات وفهم الواقع الذي يعد من صميم الحكمة ((وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)) -البقرة (269)-.
نقطة البدء تتمثل في فهم حقيقة المشروع الإسلامي الحضاري، الذي يرتكز بمضمونه الجوهري على مشروع إعادة بناء الأمة وإعادة بناء الإنسان العربي فكراً وعقلاً ووجداناً وخلقاً وروحاً، بمعنى أشد وضوحاً؛ أن الهدف الحقيقي يتلخص في تمكين الأمة من امتلاك حقها الجمعي في اختيار حكامها، وحقها الجمعي من المحاسبة والمراقبة، وحقها الجمعي في إدارة مقدراتها، وتوزيع الثروة بعدالة، وفقاً لدستور صحيح، نجح عبر استفتاء شعبي نزيه، ولذلك يجب عدم اختزال المشروع الإسلامي في الوصول إلى السلطة.
يجب الحذر من نقل الصراع ووصفه على أنه مواجهة بين الإسلاميين وخصومهم على السلطة، وأن كل فريق يريد أن يطيح بالآخر ويحل محله، فإذا كان بعض الفئات تصر على رسم خطوط المواجهة على هذا النحو، فإن الإسلاميين وكل المؤيدين لهم ينبغي أن لا يستجيبوا إلى هذا المخطط، وأن يكفوا عن خوض هذه المعركة التي تستنزف الأمة وتبدد طاقاتها، ويجب عليها خوض معركة الأمة ضد الاستبداد، وخوض معركة التمكين والتخلص من حكم العسكر، والتخلص من الحكم الفردي المطلق، وهنا يتحتم على الإسلاميين البحث عن الشركاء الحقيقيين في معركة الديمقراطية كما يتوجب عليهم بناء شراكة جديدة قادرة على فهم معركة التمكين المجتمعي والنهوض الجمعي الذي يخلو من رواسب الخصومة التاريخية والحقد المتوارث عبر الأجيال الذي خلفته أنظمة القمع والاستبداد التي أتقنت معركة الشعارات والتضليل الإعلامي.
النقطة الأخرى تتجلى في الاتفاق على أن السلطة أداة فاعلة من أدوات حماية الحريات العامة والحقوق الفردية، وليست أداة من أدوات فرض الأفكار أو مصادرة حريات المجتمع، أو منع الرأي المخالف، فالإسلاميون أشد حاجة إلى الحرية منهم إلى السلطة، ولذلك جل ما كان يبغيه الرسول صلى الله عليه وسلم من خصومه هو أن يخلّوا بينه وبين الناس، مما يوجب علينا الوصول إلى الخطاب الأكثر دقة في وصف ما حدث بأنه ليس إقصاءً للإسلاميين وليس إطاحة بحكم الحركة الإسلامية، وإنما إطاحة باختيار الأمة، وإطاحة بمبدأ الانتخاب وإقصاء لمبدأ الاختيار الشعبي المنضبط عبر الصناديق وتغييب لمبدأ إتاحة التنافس الحر بين المرشحين، والسباق العادل بين المتنافسين على مقعد الرئاسة.
الأمر الآخر يتمثل في وجوب تمكين الأمة وتحقيق قدرتها على امتلاك أدوات القوة القادرة على حماية خيارها الحر النزيه، وهذا يتحتم إعادة بناء عقيدة الجيش ليكون حارساً للشرعية وحارساً لخيار الأمة الصحيح المنضبط، وهذا ينسحب على الأجهزة الأمنية، وكذلك الأجهزة الإعلامية، التي ينبغي أن تكون مستغرقة في معركة البناء وليست أداة من أدوات الهدم والتضليل الجماهيري. ( العرب اليوم )