عن النسخ
في الإبتدائية ومن باب العقاب كان المعلم يفرض علينا واجبا بيتيا يتمثل بنسخ الدرس عدة مرات.
في البداية كنا نشعر بأن هذا العقاب على درجة عالية من القساوة ، فعملية النسخ مرهقة ومستنفذة لقوى عضلاتنا الصغيرة التي سرعان ما تخور بينما أناملنا تصيبها رجفة وهزة تدل على أن أعصاب أصابعنا فقدت تركيزها وصلابتها.
ليس هذا فحسب ، فبينما يقضي أقراننا وقت فراغه باللعب واللهو في عرض الحارات ننكمش على صفحات الدفاتر ننقش واجبنا مرة بقلم الرصاص ومرة أخرى بأزيز الوجع كلما هفت إلى مسامعنا أصوات الصبيان وهم يلعبون ويضحكون ويصيحون فرحا هنا وهناك ، عندها نتمنى أن نكون قد عوقبنا بشدة إذن أو قرصة خد أو حتى بخماسي أو كل ذلك معا وأكثر، فبالطبع سيكون الوضع أرحم.
في اليوم التالي نذهب إلى المدرسة نعرض دفاترنا على المعلم ونقف وآثار التعب والإعياء ظاهرة ، نمد إليه دفاترنا بأيادي مهتزة ومرتجفة فينظر إلينا راسما على شفاهه ضحكته الصفراء ، فيقلب الدفاتر على عجل ليتأكد من عدد مرات النسخ ثم يعيد إلينا دفاترنا مطلقا عبارته المعهودة (شطورين) ثم يتجه نحو السبورة ليشرح لنا الدرس الجديد.
عندما وعينا أكثر ونسخنا اكثر أكتشفنا بأن الدروس التي نسخناها علقت في أذهاننا بحروفها وفواصلها ونقاطها وفهمنا الدرس ربما اكثر من المعلم ليس هذا فحسب بل حتى ان مستوى خطنا وجماليته أصبح على درجة عالية من التحسن والتميز والجمال قياسا بخطوط أقراننا.
منذ عقود طويلة وبرلماناتنا المتعاقبة تمارس علينا نفس الدور مرة هي تنسخ ومرة نكون نحن الناسخين ومع هذا ....
لا خطها تحسن .
ولا حتى نحن فهمنا الدرس.