كلنا مسلمون

كنت سعيدًا بمكالمة الأستاذ الدكتور سعيد التل أطال الله في عمره، وهو يهاتفني دائما ويحاورني بما أكتب وبما أقول، موافقا أحيانا ومستدركا ومصوبا أحيانا أخرى، وقال ما يلي مع بعض التصرف: نحن جميعا مسلمون، بمعنى مسلمون حضارة وثقافة وتاريخا وتراثا وقيما وإنجازا، بما في ذلك الإخوة المسيحيون وغيرهم الذين شاركوا في بناء هذه الحضارة الشامخة، وإن لم يكونوا مسلمي عقيدة.
ونحن جميعا قوميّون أيضا، بمعنى أننا نؤمن بوحدة هذه الأمة وقوتها ورسالتها الخالدة، وتكامل مكوناتها في كل أقطارها وضرورة إنجاز مشروعها السياسي الذي يقوم على الاستقلال، والتعاون مع الآخر.
وكلنا أردنيون وطنيون، بمعنى أننا جميعا نحب الأردن ونعشقه ونسعى لبنائه وطنا عزيزا قويا، وأن يكون لبنة صالحة في الجدار العربي الإسلامي الكبير، ونسعى للتكامل مع الأشقاء العرب والإخوة المسلمين على كل المساحة الأرضية، من أجل إعادة بناء المشروع الحضاري العربي الإسلامي الكبير.
كلنا مسلمون وكلنا قوميون وكلنا وطنيون، هذه العبارة نرسم معالم إطار الميثاق الوطني الكبير الواسع، الذي يقوم على تعظيم مساحات التوافق الواسعة بين أغلب القوى السياسية الفاعلة، وبين جميع مكونات المجتمع، سواء على الصعيد المحلي أو على الصعيد العربي، والتي ينبغي أن تشكل مرجعية عليا قادرة على وقف الصراع المحتدم بين القوى الإسلامية والقوى القومية والقوى الوطنية، ذلك الصراع الذي استمر عقودا طويلة وأدى إلى إعاقة البناء والتقدم، وأعاق إنجاز مشروع الأمة على المستوى القطري وعلى مستوى العالم، وما زال قائما ومستمرا..!!
ينبغي أن نسعى جميعا إلى وقف الصراع العقائدي الأيدولوجي، لأنه أقرب إلى الوهم منه إلى الحقيقة، فالأغلبية الساحقة من أبناء الأمة إن لم يكن جميعهم ينتمون إلى الإطار الحضاري القيمي الإسلامي الكبير الواسع، الذي يدعو إلى الحرية والعدالة والكرامة، والتعاون والمشاركة، والتسامح والتغافر والتكافل، والفضيلة والرفاه، ومحاربة الظلم والتعسف والاستبداد والفساد، ونبذ العدوان وكل معاني التعصب والتمييز، ((إِنَّ هَ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ))-الأنبياء (92)-.
هذا يتطلب من الإسلاميين أن يقدموا أنفسهم على أنهم جزء من هذه الأمة، وأنهم جزء لا يتجزأ من نسيجها العام، وأن يتبنوا برنامجا وطنيا نهضويا، وأن يتخلوا عن الحزبية العقائدية، وأن يعملوا على نشر المفهوم الحضاري الواسع للإسلام، وأن يقدموا الخطاب المدني المتسامح الذي ينبذ خطاب الكراهية، وخطاب التعصب الديني والمذهبي، وأن يحاربوا مفهوم الطائفية البغيض الذي يقسم الأمة ويفرقها شيعا متحاربة متنازعة، وأن يعملوا على توحيد الأمة باللين والفقه المعاصر الذي يراعي اختلاف الزمان ومتطلبات التغير الحضاري الهائل.
كما يتطلب من القوميين التخلي عن احتكار الانتماء العروبي، وأن ينبذوا مفهوم الصراع مع الإسلاميين، وأن يبتعدوا عن ترسيخ مبدأ العداء مع الحركات الإسلامية، وأن يسهموا في ترسيخ أسس المصالحة الاجتماعية المستمدة من معالم الميثاق الوطني الثلاثة الكبرى، وينبغي الانطلاق من أن العروبة هي مادة الإسلام، وأن العرب هم أهل الريادة وأصحاب الرسالة، عن طريق الإمساك بناصية العلم، وناصية التحضر القيمي، والسلوك الحضاري البعيد عن لغة القتل والدم واستخدام العنف والقوة.
وعبر المنهج نفسه ينبغي على القوى الوطنية أن تتخلى عن احتكار الانتماء الوطني من جهة، والتخلي عن وهم الصراع مع القوى الإسلامية والقوى القومية من جهة أخرى، وينبغي السعي لإزالة التناقض بين المشروع الإصلاحي الوطني ومشروع الوحدة العربية ومشروع النهوض الإسلامي، ويجب العمل معا على وقف هدر الوقت وتبديد الجهد في الصراعات الداخلية الموهومة التي تتغذى على الجهل والتعصب والأخطاء المتبادلة.
هناك أطراف داخلية وخارجية تستثمر في هذا الخلاف، وتجد مصلحتها في إدامته، وبقائه مشتعلا متأججا، ولذلك تصب الزيت على النار، من خلال الأموال، وإحداث الاختراقات، واستغلال وسائل الإعلام الحديثة، والاستعانة بمسعري الحرب الذين يتقنون النفخ في الثقوب وتوسيع الشروخ، والتركيز على الاخطاء وتضخيمها ونشرها، من أجل توريم الأنوف وإيغار الصدور وإشعال الأحقاد وخلق الفتن، التي يخفت فيها نداء العقل، ويضيع صوت الحكمة.
ينبغي على العقلاء والحكماء في الأمة ومن كل الأطراف والقوى السياسية، أن تعمل على تفويت الفرصة على مثيري الفتن الذين يعملون على إدامة الصراع في جسم الأمة، ما يحتم علينا جميعا استئناف الجهود المبذولة نحو جمع الأطراف على ميثاق وطني جديد، يحدد الثوابت التي لا يجوز الاختلاف عليها، وبناء المرجعية الوطنية العليا التي ترسم خارطة الطريق، وتوضح قواعد اللعبة السياسية، قبل الشروع بأي خطوة تنفيذية، وقبل الذهاب إلى صناديق الاقتراع، عبر صبغة تشاركية تتحمل كل الأطراف المسؤولية الجمعية في تأمين العبور الآمن نحو المرحلة المقبلة.( العرب اليوم )