«رواية الوردة»: من حكاية الحب المستحيل إلى دراسة التحولات الاجتماعية

> هنا، على ضوء هذا التفسير، الذي يُجمع عليه المؤرخون، يصبح في إمكان هذا العمل الأدبي الغريب -الذي استوحاه الأدباء الغربيون كثيراً وبخاصة في الأزمان التالية مباشرة لانتشار هذه الرواية الفرنسية المبكرة مترجمَةً إلى عدد من اللغات الأوروبية، ولا سيما منهم تشوسر في «حكايات كانتربري»- أن يفسر، عبر دراسة الفوارق بين القسمين، جزءاً كبيراً من التطور الاجتماعي في فرنسا (وغرب أوروبا عموماً) عند تلك النقطة الانعطافية من تاريخ التبدلات الطبقية. ونقول هذا بالطبع من دون أن نحاول أن نزعم أن الوصول إلى مثل هذا التفسير، الذي هو من المؤكد شديد المعاصرة، لم يكن وارداً في ذهن أي من كاتبي النصّ ولا سيما كاتب النص الثاني، حيث إن كلاًّ منهما إنما كان يعبّر في الواقع عن حال الفن والحياة اليومية في المجتمع الذي عاش فيه لا أكثر ولا أقلّ.
> في القسم الأول من «الرواية» (أي القسم الذي يعزى عادة إلى الكاتب شبه المجهول، غيوم اللوريسي) لدينا الراوي، الذي يتذكر حلم شباب عاشه في خياله (وسيتبين أنه كان أقرب إلى النبوءة)، وفيه نراه يدخل متجاوزاً باباً مغلقاً تقوده عبره فتاة حسناء. وهو حين يدخل يجد نفسه في مكان مليء بالشخصيات والنباتات والحيوانات... إنه يقول لنا على الفور إن هذا المكان إنما يبدو بالنسبة إليه شيئاً أشبه بالجنة، ولكن على رغم إشارته الواضحة إلى ذلك الشعور الفردوسي الذي يعتريه إزاء روعة المكان وغرابته، فمما لا ريب فيه أن ما يهم فتانا من هذا كله أنه سرعان ما شعر أنه قد وقع في شرك الغرام، وذلك لأن كيوبيد، الموجود بين الشخصيات، رماه بسهمه. بيد أن الأمور لن تكون طبعاً على تلك البساطة، وذلك لأننا سوف ندرك -كما يدرك صاحبنا على الفور- أن حبيبته هذه لن تكون سهلة المنال، حيث ثمة دون وصوله إليها شروط وأهوال عديدة عليه أن ينفِّذها و «ينْفَد بجلده» منها. صحيح أن الشرط الأول الذي يجد نفسه في مواجهته كان بسيطاً: يتعين عليه للحصول على فؤاد الحبيبة أن يصل أولاً إلى وردة ويقطفها... ولكن.. وهنا أيضاً نجد هذه الـ «لكن» المرعبة: قبل الوصول إلى الوردة عليه أن يجابه أخطاراً وعوائق، وشخصيات من البيِّن أن كلاًّ منها يمثل فضيلة أو رذيلة أو صفة أو فئة معينة، تدل على هذا أسماؤها: فهناك «الصديق» و «الفضيلة» و «حسن الاستقبال» و «الطمع» و «النميمة» و «الخجل» و «الجمال» و «اللهو»... وما إلى ذلك. طبعاً سيقوم الفتى بألف محاولة ومحاولة وكله توق إلى محبوبته، لكن هذا القسم الأول من الرواية ينتهي من دون أن نعرف ما إذا كان الفتى سوف يحقق حلمه. ولنتخيل هنا قراء الرواية أواسط القرن الثالث عشر، وخيبة أملهم حين يصلون إلى نهايتها، ليكتشفوا كما لو أن الرواية تريد أن تقول لهم استحالة الحب، وعبث كل جهودنا في سبيله.
> هنا يأتي جان دي مون بعد ذلك بنصف قرن أو أقل قليلاً، ليكتب ما اعتبر دائماً استكمالاً لتلك الرواية. أتى ليضيف نصاً لا تنقصه السخرية، نصاً أقرب ما يكون إلى النص الفلسفي وإلى السياق المعرفي، ولكأننا هنا أمام معادل لكتاب «الأمير»، إذ لئن كان كتاب ماكيافيللي كتاباً واقعياً عن فن الحكم والسياسة، ولا يتورع، لفرط واقعيته، ان يتحول إلى كتاب في «لاأخلاق السياسة»، كذلك الأمر مع نص جان دي مون. ومنذ البداية، يبدو لنا وكأن دي مون إنما يريد أن يدعم موقف الفتى الحالم الموله بأن يضفي عليه بعداً فلسفياً. وهكذا نراه، إذ يستعيد الشخصيات الأولى نفسها، يضيف إليها شخصيات جديدة، ويسمح لكل شخصية بأن تخوض في حديث طويل جداً يتضمن المعارف والعلوم والمواعظ الأخلاقية والرؤى الفلسفية والمقاطع التاريخية. ومن هنا، لن يكون غريباً أن تحمل الشخصيات الجديدة أسماء مثل «الغرور» و «العبقرية» و «الطبيعة»... وما إلى ذلك، حيث إن المعاني والتلميحات هنا تكون أكثر واقعية وأقل رومانسية.
> ويعني هذا بالطبع، وفق الدارسين المتعمقين للرواية، أننا مع جان دي مون صرنا أمام عمل أكثر لؤماً وأقل طيبة، لكننا بتنا أمام عمل أكثر واقعية و «عصرية»، إذ يبدو أن اهتمام هذا الكاتب لا ينصبّ على حكاية الغرام، التي إذ يتابع الحديث عنها فإنما يتابعه من دون كبير قناعة. ما يهمه هنا كان ما بدأ يهم زمنه حقاً: تلك الشخصيات، التي إذا نزعنا الحجاب عنها سنجدها أشبه بألسنة تنطق باسم الطبقات الجديدة الصاعدة، وتتحدث عن نظرة هذه الطبقات إلى العالم، بأخلاقه ومعارفه. ما يعني أننا هنا نصبح أمام وثيقة موسوعية حقيقية حول ذلك الزمن (نهاية القرن الثالث عشر) الذي كان، أوروبياً على الأقل وفي كل الأعراف والحسابات، زمنَ البداية الحقيقية للإنسان ولمعارف الإنسان واهتماماته: إننا هنا أمام موسوعة كاملة تتناول، على ألسنة الشخصيات، القضايا العلمية والتربوية، القضايا اللاهوتية والفلسفية والأخلاقية. وعلى طول السجالات، ليس ثمة سوى العقل ما يُسمع صوته ويبدو منتصراً ومهيمناً. في مثل هذه المقاطع، يبدو جان دي مون وكأنه راغب في أن يعود بقارئه إلى عصور العقلانية اليونانية: إننا هنا وكأننا نشهد انتصار أرسطو على أوفيد، العقل على الهوى، وبعد هذا لا يعود مهماً بالطبع أن يعرف القارئ مصير الحب الذي شغل الجزء الأول من الرواية. ما يهمه هو مقدار ما باتت تلك الرواية تعبِّر عنه هو (القارئ) وليس الراوي، الذي ستصبح حكاية غرامه وعذاباته جزءاً من ماض جميل راح يتدهور على مذبح أزمان حديثة أقل جمالاً وإنما أكثر صدقاً. ( الحياة اللندنية )