الرايات الباردة
هي قصة تليت في إذاعة ،لكن المغزى منها عميق، كتبها فلسطيني من غزة ،وشاركت في مسابقة وفازت وملخصها ،إن جدة باتت وأحفادها ليلتهم الباردة كبقية ليالي الجياع في المدينة المطلة على المتوسط والمضغوطة بالصحراء، وكانوا تناولوا الفتات الذي بعث به الجيران لهم بعد نهار قضوه في تحمل الجوع والبرد الذي يداهم كما هي عادته في كل شتاء مصحوبا بالغيوم الرمادية الباهتة وبالخوف واليأس من الغد المحطم كما النفوس الفلسطينية الراغبة بالحياة والممنوعة عنها على الدوام ،ولسبب يعرفه الإسرائيليون والعالم الذي تعود أن يتواطأ معهم من أيام النكبة الأولى في العام 1948 حين دخل اليهود فلسطين وأعلنوا دولتهم التوراتية المقدسة وحتى اللحظة الراهنة .
وبينما كان الصغار يهجعون، أو يحاولون نادى أحد الأحفاد ،ستي أنا بردان كثير، وكانت الجدة تنظر في الغرفة وفضائها البارد الحزين ،قالت ،تعال معي وأخذته وخرجت الى الشارع المقفر والمظلم وبدأت تجمع الرايات التي تتمايل مع الرياح الباردة القادمة من البحر ولكنها تركت راية فلسطين ترفرف لوحدها وصار الفضاء ملكها بعد أن إختفت الرايات الأخرى وغابت في الظلمة بعد أن طوتها الجدة وإنسحبت الى داخل الدار ،وفي الغرفة الباردة طوت الجدة تلك الرايات ببعض وعملت منها مايشبه اللحاف ولفت به الحفيد البردان الذي نادى ثانية ،ستي إن الرايات باردة .
الرايات في البلاد العربية ترتفع وترفرف وتظل كذلك ،وربما مزقتها الريح وتآكلت بفعل الأنواء.. لكن من يرفع تلك الرايات يباهي بمجدها الخالد وبصحة مايدعيه ،ففي كل البلاد يحملها أناس ملكوا السلطان والسيطرة والنفوذ وساقوا الناس ليكونوا منقادين لأمرهم راضين به طائعين لاحول لهم ولاقوة فيما يراد لهم ان يفعلوه لتعلوا راية الحركة الفلانية والحزب الفلاني، ولاعلاقة للأمر بإرتفاع الرايات وبطلانها بحسب روايات نقلت عن الموروث الديني، والقضية برمتها هي قضية التعددية والإختلاف والخلاف الموجب أحيانا للفرقة ونفي العقيدة الصالحة التي هي مرتبطة بالمشيئة العليا للرب العظيم .
رايات الطائفية تعلو في بلاد الشام والعراق والجزيرة ومصر واليمن وشمال أفريقيا، وتنخفض في مقابلها رايات الأوطان ،فهذا علم العلمانيين ،وذاك للإسلاميين ،وهذا لليسار وذاك للإعتدال، وكل يدعي ماليس فيه، ولايقدم للناس سوى الخوف والرعب والموت المجاني والقلق من المستقبل المحفوف بالمخاطر التي لاتنتهي وتهدد الحياة وتجعلها باردة باهتة توحي بالهلاك والضياع والتغييب والتجريم والحرمان، وحتى التكفير .بلادنا العربية الموشحة بالراية الدينية المصبوغة بتشدد غير مسبوق وبتطرف يقود الى الصدام تنتظر الأسوأ في قادم الأيام ،ولاسبيل الى وقف مهزلة العقل العربي المتراجع إلا بإعمال العقل وفسح الطريق لأهل الحكمة والعقل ليقولوا قولتهم وينهوا الجدل والقلق ويمكنوا الشعوب من العودة الى ساحة مشتركة يكون الجميع فيها في معرض القبول بالآخر ودعمه والثقة به وعدم إقصائه لأي سبب كان ،ومهما كان.