«الرجل الثالث» لكارول ريد: عندما كانت للحرب الباردة إبداعاتها المدهشة

تم نشره الخميس 25 تمّوز / يوليو 2013 01:16 صباحاً
«الرجل الثالث» لكارول ريد: عندما كانت للحرب الباردة إبداعاتها المدهشة
إبراهيم العريس

هناك ضربان من سوء التفاهم يحكمان العلاقة مع واحد من أهم الأفلام التي تحدثت عن «الحرب الباردة» التي كانت «اندلعت» بين «الشرق» الاشتراكي و «الغرب» الرأسمالي، منذ انتهت الحرب العالمية الأولى... ونعني به فيلم «الرجل الثالث» المعتبر دائماً واحداً من أبرز الأفلام في تاريخ السينما، وواحداً من أفضل عشرة أفلام عن التجسس والعملاء السريين. الأول يتعلق بهوية مخرج الفيلم، حيث ان الغالبية العظمى من الذين يعرفون هذا الفيلم وشاهدوه، يصرون دائماً على انه من إخراج اورسون ويلز. أما الثاني فيتعلق بالهوية الأدبية لهذا الفيلم، بمعنى ان كثراً يعتقدون انه مأخوذ عن رواية للكاتب الانكليزي غراهام غرين.

> وللأمران، في واقع الأمر، ما يبررهما، فمن ناحية ارتبط «الرجل الثالث» بأورسون ويلز، لأن هذا الأخير يقوم بالدور الأول فيه، وهو حاضر في ذاكرة كل الذين شاهدوه، كما انه حاضر في كل الصور التي تنشر حين يجرى الحديث عن «الرجل الثالث». ولما كان أورسون ويلز معروفاً بصفته واحداً من أكبر المخرجين الذين عرفهم تاريخ الفن السابع، كان من الطبيعيّ أن ينحو كثر الى اعتباره مخرج الفيلم، خصوصاً أن الصور المتبقية من «الرجل الثالث» تحمل، والى حد كبير، سمات ترتبط مباشرة بأفلام أخرى لويلز مثل «المواطن كين» و «السيد اركادان». لكن ويلز ليس مخرج «الرجل الثالث». مخرجه هو الإنكليزي كارول ريد. أما بالنسبة الى علاقة غراهام غرين بـ «الرجل الثالث»، فهي مسألة أكثر بساطة. غرين كتب في الأصل المعالجة لكي تحوّل الى فيلم سينمائي بناء على طلب المخرج وشركة الانتاج. بمعنى ان قصة «الرجل الثالث» كتبت للسينما مباشرة... ثم بعد ذلك فقط، أعاد الكاتب صوغها على شكل رواية... وهو أمر نادر الحدوث في السينما لكنه يحدث أحياناً. المهم ان غرين خاض هنا تجربة سينمائية انتهى بها الأمر الى أن تحمل أسماء ثلاثة من المبدعين، كل في مجاله، وكانت النتيجة فيلم «الرجل الثالث» الذي يعتبر، عادة، فيلم الحرب الباردة بامتياز.

> وهو فيلم الحرب الباردة، بخاصة، لأن احداثه الأساسية تدور في مدينة فيينا، عاصمة النمسا، خلال السنوات التالية مباشرة للحرب العالمية الثانية... في وقت كانت فيينا هذه نقطة اللقاء/ الصدام المحورية بين سياسات «الشرق» وسياسات «الغرب»، ولذلك عُرف عنها انها كانت في ذلك الحين، مملوءة بالعملاء السريين التابعين للطرفين معاً... وكذلك بعملاء يشتغلون في الوقت نفسه لمصلحة الطرفين... ناهيك بامتلائها في الوقت نفسه - وفي شكل اكسسواري ربما - بالمئات من الجواسيس والعملاء التابعين لشتى البلدان الأخرى والجهات المتنوعة، المتحالفة حيناً والمتناحرة في أحيان كثيرة. وفي هذا المعنى اتخذت فيينا تلك الأيام صورة ميدان المعركة. لذا كان من الطبيعي لفريق عمل يريد أن يعبّر عن أدق ما طاول الحرب الباردة، أن يذهب الى فيينا ليصور هناك.

> حُقّق «الرجل الثالث» في العام 1949، ليتمحور حول أحداث تدور مباشرة بعد الحرب، في تلك المدينة التي، إن لم تكن تحملت ويلات الحرب التدميرية، فإنها تحملت ويلاتها المعنوية على الأقل... لتصبح هي مركز الثقل في شتى أنواع التجاذبات والمؤامرات وألعاب الظل. في مثل ذلك المناخ يطالعنا كاتب أميركي عادي، لا يزال يطرح على نفسه أسئلة عما اذا كان حقاً موهوباً ككاتب. وهو هنا في فيينا للبحث عن صديق حميم له يدعى هاري لايم (ويقوم بالدور اورسون ويلز، فيما يلعب جوزف كوتن دور الكاتب هولي مارتنز)... وكان هولي أُخبر بأن صديقه هاري الذي انقطعت عنه أخباره منذ زمن، قد أُصيب، أو قتل، في حادث عرضي. غير أن هولي لم يشأ أن يصدّق ان نهاية صديقه هاري يمكن أن تكون على هذه الشاكلة، في مناخ عرف فيه ان رجال الشرطة فتحوا تحقيقاً جدياً حول ماضي هاري لايم. وهكذا يجري تحقيق رجال الشرطة، وبحث هولي، في شكل متوازٍ. بالنسبة الى الشرطة تبدأ صفحات مطوية وغريبة من حياة هاري بالظهور... أما بالنسبة الى هولي، فإنه يجد نفسه وسط أجواء المافيا والعصابات والعملاء السريين. ثم، إذ تزداد وتيرة التقائه بعشيقة صديقه، - الذي كانت كل الدلائل تشير الى انه قد مات -، يقع في غرامها... غير ان ذلك كله سرعان ما يتهاوى ويصيبه تحوّل مسرحي، حين يكتشف هولي، ذات لحظة، أن هاري لم يمت ولم يسقط ضحية حادث، بل هو حيّ يرزق في فيينا، لكنه آثر الاختفاء لأنه متورط في شبكة لتهريب البنسلين. وهنا، إذ يجد هولي هذه المفاجأة في انتظاره، لا يرى بداً في نهاية الأمر، وإذ يشعر ان الأمور بدأت تنقلب عليه، وأن هاري يطالب بفتاته الحسناء، لا يرى بداً من الوشاية بصديقه لدى الشرطة. وإذ تدرك هذه حقيقة ما يحدث، تطارد هاري في مشاهد نهائية قوية، يدور جزء منها داخل مجاري فيينا، وينتهي بها الأمر الى اردائه قتيلاً.

> منذ عروضه الأولى، حقق «الرجل الثالث» نجاحاً مقبولاً إن لم يكن كبيراً، بل إنه، إذ شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان «كان» السينمائي في عام ظهوره 1949، تمكن من أن يفوز بالسعفة الذهبية، ما زاد من شعبيته. أما بالنسبة الى أورسون ويلز، فإنه أوحى كثيراً بأبوّته الجزئية للفيلم. غير ان العلاقة الأهم بين مبدع وبين هذا الفيلم، كانت علاقة غراهام غرين به. فهو، إذ كتبه مباشرة للسينما، لم يفته ان يحمّله قدراً كبيراً من الأبعاد الميتافيزيقية التي تطغى عادة على رواياته نفسها. إذ حين كتب غرين السيناريو للفيلم، كان أضحى في قمة نضوجه، وكان اسمه صار واحداً من أشهر الأسماء الروائية في أواسط القرن العشرين. ولربما يصحّ القول - في هذا الاطار - ان فيلم «الرجل الثالث»، ومن ثم النص الذي أُخذ عنه، يمكن اعتباره الأكثر تمثيلاً على أدب غرين... بخاصة في ذلك التزاوج لديه بين العمل السري والبعد الميتافيزيقي والاهتمام بالانسان كإنسان. وهذا التزاوج الذي ظل يطغى على أدب غرين، حتى النهاية، وبخاصة في روايته الكبيرة الأخيرة «العامل الانساني»، كان محوره، الربط بين العمل الذي يقوم به المرء، عن عمد أو صدفة، وبين الأبعاد الجوّانية لشخصيته. وفي هذا الاطار تصبح فيينا، مثل كل مكان آخر في روايات غراهام غرين، مجرد رمز وكناية، ولا تعود الحرب الباردة بالتالي، سوى مكان رمزي بدوره. ولعل هذا ما جعل الكاتب الفرنسي، فرانسوا مورياك، الذي تضاهي كاثوليكيته كاثوليكية غراهام غرين، يقول في معرض حديثه عن «الرجل الثالث»: «ان هذا المناخ المملوء بالشرطة والجريمة، مناخ الحضيض الذي يظهر فيه البشر على صورة حيوانات ضارية تتقاتل في ما بينها، من دون أن تعرف علام تتقاتل... وفي خضم ذلك يصبح كل واحد طريدة وصياداً في الوقت نفسه، هذا المناخ ليس في نهاية الأمر سوى إسقاط للعالم نفسه، وصورة عن الحياة التي نعيش».

> ونذكر هنا ان الفكرة الأساسية التي كمنت في خلفية تحقيق هذا الفيلم كانت للمنتج البريطاني ألكسندر كوردا الذي كان صديقاً لغراهام غرين، ويتطلع الى انتاج فيلم من تمثيل اورسون ويلز، وينتمي ايضاً الى عوالم هذا الأخير. وهكذا، ما إن صاغ غراهام غرين فكرته، حتى أسند كوردا الاخراج الى كارول ريد (1906 - 1976) الذي كان في ذلك الحين من أبرز المخرجين الانكليز، فشارك في وضع الصوغ النهائي، ولكن دائماً تحت نظرات اورسون ويلز المتنبهة والمحيطة للفيلم بأبويّة واضحة هو الذي اشتهر له، في الفيلم، قول نقل كثيراً بعد ذلك، إذ يقول في واحد من المشاهد: «في ايطاليا أيام حكم آل بورجيا، كان هناك رعب وقتل كثيران، وكانت هناك حروب ومعارك ومذابح، ولكن كان هناك أيضاً ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو وعصر النهضة... فما الذي أنتجته سويسرا خلال 500 سنة من سلامها وديموقراطيتها، غير ساعة الكوكو؟». ( الحياة اللندنية )



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات