مضيعة جديدة للوقت الفلسطيني
(النجاح في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية المستأنفة سوف يمهد لعدوان جديد على قطاع غزة لتصفية المقاومة المعارضة لنتائجه، بينما يهدد الفشل المتوقع لها بتكرار نتائج فشل قمة كامب ديفيد عام ألفين)
في التاسع والعشرين من تموز الماضي استؤنفت في واشنطن برعاية أميركية المفاوضات المباشرة بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين دولة الاحتلال الإسرائيلي، التي سوف تستضيف الجولة الثانية من "المفاوضات حول المفاوضات" في الأسبوع الثاني من هذا الشهر كما أعلنت الوزيرة تسيبي ليفني المسؤولة عن ملفها في حكومة الاحتلال.
وحسب عالم الفيزياء اليهودي الشهير ألبرت آينشتاين، فإن "تكرار فعل الشيء ذاته المرة تلو الأخرى وتوقع الحصول على نتائج مختلفة" يمثل "حماقة قصوى"، وذلك بالضبط هو ما أنجزه جون كيري بعد ست جولات له في المنطقة منذ تقلد مهام منصبه وزيرا للخارجية الأميركية.
إن الرئيس عباس بإرساله مفاوضيه إلى واشنطن، متحديا النتائج الكارثية للتجربة المرة طوال السنوات العشرين الماضية، والمعارضة القوية الواسعة في الداخل، يبدو منجرا طوعا لآخر امتحان له لصدقية الولايات المتحدة، مخاطرا بصدقيته هو نفسه، في امتحان سوف يمهد النجاح فيه البيئة السياسية لعدوان جديد على قطاع غزة لتصفية المقاومة المعارضة لنتائجه، بينما يهدد الفشل المتوقع له بتكرار نتائج فشل قمة كامب ديفيد عام ألفين.
بالنسبة لكيري، قد يكون إنجازه نجاحا شخصيا يأمل في أن يقود إلى تحقيق إنجاز في مجال السياسة الخارجية لإدارة رئيسه باراك أوباما في ولايته الثانية.
وبالنسبة لرئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو يمثل استئناف المفاوضات "مصلحة استراتيجية حيوية لدولة إسرائيل" كما قال في السابع والعشرين من الشهر الماضي، فاستئنافها يمنح دولته المزيد من الوقت الثمين الذي يحتاجه لخلق المزيد من الحقائق الاستيطانية على الأرض كي يملي على مفاوض المنظمة "الحدود" التي يعدها "آمنة" لدولته التي تظل الدولة الوحيدة في العالم التي لا حدود لها حتى الآن.
أما بالنسبة لمفاوض منظمة التحرير الذي يبدو مصرا على أن يلدغ من جحر الرعاية الأميركية للمفاوضات لأكثر من مرتين، فإن إنجاز كيري يمثل مضيعة جديدة لوقت فلسطيني ثمين يسابق الزمن لتحقيق حلمه في دولة مستقلة تكون "وطنا قوميا" لشعبه لكن إنجاز كيري يجعله أبعد منالا حد الاستحالة.
فإنجاز كيري يزيد الانقسام الوطني حتى بين فصائل المنظمة، ويؤجل المصالحة الفلسطينية تأجيلا مؤكدا لمدة تسعة اشهر في الأقل، ويؤجل للفترة ذاتها أي توجه جديد لمنظمة التحرير نحو الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية للبناء على اعتراف الهيئة الأممية بفلسطين دولة غير عضو فيها العام الماضي، من دون أي ضمانات ل"تجميد" الاستعمار الاستيطاني في الضفة الغربية وفي القدس بخاصة، ناهيك عن وقفه بالكامل، ليكرر مفاوض المنظمة خطأ الخضوع للضغوط الأميركية للانجرار إلى مفاوضات "الحل النهائي" بينما دولة الاحتلال لم تنفذ بعد حتى ما التزمت به بموجب الاتفاقيات الموقعة للمرحة الانتقالية.
لقد ناشد أوباما المتفاوضين في واشنطن "التوجه إلى هذه المحادثات بنية حسنة"، بعد أن أشاد باستئناف تفاوضهم باعتباره "خطوة واعدة إلى الأمام" تعهد بأن "الولايات المتحدة تقف مستعدة لدعمها"، وفعلت مثله اللجنة الرباعية الدولية (الأمم والولايات المتحدة والاتحادان الأوروبي والروسي) في بيان لها الثلاثاء الماضي، بالرغم من أن راعيها الأميركي ودولة الاحتلال ما زالا يتعاملان مع استئناف المفاوضات "كهدف في حد ذاته" كما قال د. غسان الخطيب المتحدث السابق باسم السلطة الفلسطينية برام الله.
لكن الأمين العام للجنة التنفيذية للمنظمة ياسر عبد ربه شكك في حسن نية واشنطن ودولة الاحتلال عندما احتج الأسبوع الماضي على تشاورهما ثنائيا حول "الأمن" وكأنه "أمنهما الثنائي" مع أن الأمن "قضية مركزية وأساسية لنا تتعلق بمستقبلنا كله". أما شريك عبد ربه "الإسرائيلي" في "مبادرة جنيف"، يوسي بيلين، وفي مقال له في الجروزالم بوست في الثلاثين من الشهر المنصرم، فقد شكك في "حسن نية" نتنياهو الذي "نكث بكل ما قاله طوال حياته السياسية".
إن المحادثات المستأنفة ما هي إلا "بداية البداية" ل"عملية طويلة لا توجد أي ضمانة لنجاحها" كما قالت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت. أما المتحدثة باسم كيري، جنيفر بساكي، فاعتبرت اجتماعات المتفاوضين في واشنطن يومي الاثنين والثلاثاء الماضيين مجرد "فرصة لوضع خطة عمل إجرائية" لمفاوضات "الوضع النهائي". ولا يعرف حتى الآن، ولفترة طويلة مقبلة، هل اتفق أم لم يتفق المتفاوضون على هذه الإجراءات، ومنها طبعا "مرجعية المفاوضات"، فقد صرح كيري بعد انتهائها بأنها سوف "تحاط بالسرية" وأن الأطراف الثلاثة المشاركة فيها "قد اتفقوا" على أن يكون المبعوث الأميركي للمفاوضات المستأنفة، مارتن إنديك، هو "الشخص الوحيد" المفوض بالتعليق عليها.
تتهم المعارضة الواسعة عبر الانقسام الفلسطيني لاستئناف المفاوضات المباشرة الرئيس محمود عباس بأنه على وشك "أن يلدغ من الجحر ذاته مرات"، في إشارة إلى مؤتمر أنابوليس عام 2007 و"خريطة طريق" الرباعية عام 2002 وقبلهما قمة كامب ديفيد الثلاثية في أيلول عام 2000 عندما رضخ الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات للضغوط الأميركية والعربية للدخول في مفاوضات "الحل النهائي" قبل أن تنفذ دولة الاحتلال المرحلة الثالثة لاتفاق أوسلو بسحب قواتها من المنطقة "ج" لتسلم سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية حوالي 95% من مساحة الضفة الغربية وقبل أن تفتح ممرا يربط الضفة بقطاع غزة بموجب الاتفاقيات الموقعة.
يقول كيري مسوغا استئناف رعاية بلاده للمفاوضات المباشرة الجديدة إن "المحاولة" والفشل فيها أفضل من عدم فعل أي شيء، لكن استمرار دولة الاحتلال في مشروع استعمارها الاستيطاني للضفة الغربية، وبخاصة في القدس، كان هو السبب الرئيسي لفشل قمة كامب ديفيد وخريطة الطريق ومؤتمر أنابوليس ووصول المفاوضات إلى طريق مسدود في نهاية المطاف بعد ما يزيد على عشرين عاما منذ انطلاقها في مدريد عام 1991.
وبالرغم من ذلك استخدم كيري كل ما لبلاده من نفوذ لإرغام المنظمة على الانجرار للمفاوضات الجديدة والتنازل عن قرارها المعلن بعدم استئناف المفاوضات من دون "وقف" التوسع الاستيطاني، لا بل أرغمها على استئناف المفاوضات على أساس مبدأ "تبادل الأراضي" كمدخل لقبولها الاعتراف بالمكاسب الإقليمية التي حققتها دولة الاحتلال بالاستيطان غير المشروع المخالف لميثاق الأمم المتحدة وقراراتها وللقانون الدولي والإنساني، وهذه وصفة مؤكدة لفشل المفاوضات الجديدة في حد ذاتها أو لاستحالة الموافقة الفلسطينية على نتائجها في أي استفتاء نزيه للشعب الفلسطيني.
فدولة الاحتلال "تلعب لعبة عملية السلام ليس للتخلي عن مكاسبها" التي حصلت عليها بالقوة القاهرة المدعومة من راعيها الأميركي وبخداعهما السياسي لمفاوض المنظمة "بل لحماية هذه المكاسب" وتعظيمها وإضفاء شرعية فلسطينية عليها باسم أي اتفاق ينبثق عن المفاوضات الجديدة، كما كتب الناشر والمحرر والقس الأميركي جيمس أم. هال عشية استئناف المفاوضات بواشنطن.
لقد قاد فشل قمة كامب ديفيد إلى الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ووجدت دولة الاحتلال وحكوماتها المتعاقبة في الفشل والانتفاضة ذريعتين إضافيتين للاستمرار في التهرب من تنفيذ الاتفاقيات الموقعة، ولتحميل المنظمة وقيادتها المسؤولية عن كليهما، ولإعادة احتلال كل المناطق الخاضعة للسلطة، وللتخلص من الرئيس عرفات ونظامه السياسي واستبداله بنظام على مقاس أنظمة الحرب الأميركية على "الإرهاب" ملتزم بنبذ العنف والمقاومة كشكلين من أشكال الإرهاب.