لا تفرحوا كثيراً ..

أقول لجميع المؤيدين لعملية فض الاعتصامات بالقوة والعنف، وأقول لجميع أنصار فريق الانقلابيين، الذين بذلوا جهدهم في تبرير هذه الخطوة، لا تفرحوا كثيراً، لأن مشكلتكم لم تحل، ولن تحل باستخدام القوة والعنف، ولن تكسبوا شيئا بمزيد من سفك الدماء ومزيد من عدد الشهداء، لسبب بسيط جداً أن الاعتصامات ليست سوى أداة تعبير عما تختزنه صدور جماهير غفيرة وشرائح واسعة من الشعب المصري،والشعوب العربية، وما تختزنه الصدور لا تستطيع قوة في الأرض ازالته أو اجتثاثه، فقتل ألف والفين وعشرة، لا يحل المشكلة ولا يقترب من الحل، بل إن زيادة عدد الشهداء وضحايا الرأي، يزيد من انتشار الرأي ويزيد من حدة الانتماء اليه، وسوف تظهر أدوات أخرى للتعبير وتزيد بدائل الاعتصامات في اماكن أخرى وفي أوقات أخرى لا عد لها ولا حصر.
تجربة سحق المعارضين تمت في مصر نفسها مرات سابقة في الخمسينات والستينات من القرن الماضي ،ومع الفئة نفسها، فقد تم اعتقال قادتهم وأعداد كبيرة منهم وتم إيداعهم في السجون سنوات طويلة، وتم تدشين حملات اعلامية منسقة لتشويههم ووصفهم بالارهاب، وتم اخراج مجموعة كبيرة من المسرحيات والتمثيليات المفبركة حول قيام بعضهم بعمليات تخريب وقتل واغتيال، وتم انفاق الأموال الفائقة على الأفلام والكتاب والفنانين الذي أسهموا في هذه المعركة المنسقة استمرت لمدة تزيد عن نصف قرن من الزمان، وتم حرمانهم من حق العمل السياسي المعلن، وتم حرمانهم من تأسيس أحزاب سياسية وواجهات عمل علنية، ومع ذلك عجزت كل هذه الخطط والبرامج عن ازالتهم من الوجود، ولم تستطيع اجتثاثهم من الحياة السياسية، بل حدث النقيض تماماً، فبمجرد السماح لهم بالمنافسة الحرة النزيهة، حصلوا على المرتبة الأولى بكل جدارة.
ولذلك فإن تكرار التجربة نفسها عبر الانقلابات العسكرية، واستخدام الجيش والقوات الأمنية، والسير بأسلوب الاعتقالات مرة أخرى وتكرار المشهد نفسه بالتشويه والشيطنة، واخراج المسرحيات المفبركة، عبر الاتهامات باحراق الكنائس، وتخريب بعض المؤسسات، والزعم بأن هنالك أسلحة، فهذا كلّه تم تجربته سابقاً كذا مرة، وكان هناك للأسف كتاب وأقلام تكرر ما تقوله ألوان الاعلام الحكومي الذي يفتقد الى الحد الأدنى من المصداقية.
فهذا كله نوع من العبث، ويمثل مزيدا من تضييع الوقت والجهد والمال بغير فائدة ترتد على الفريق نفسه !فضلاً عن تضييع الوقت والجهد والمال على الشعوب والأمة كلها بجميع مكوناتها.
إذا كان هنالك عتب! فهو على بعض الكتاب المحترمين، الذين لم يبذلوا جهدهم في بيان الحقيقة للجماهير، ولم يكونوا منصفين للضحايا وذويهم الذين سقطوا في ميدان التعبير عن الرأي، وسقطوا دفاعاً عن حريتهم وحرية شعوبهم، والعتب كل العتب على كل من يكرر مقولات الاعلام الرسمي، الذي احتكر الرواية الميدانية، وتم مطاردة كل أصحاب (الكاميرات) وكل الأقلام المحايدة، من أجل ضياع الحقيقة، والحيلولة دون توثيق الجريمة المروعة.
نحن لسنا بصدد حوار سياسي، ولسنا بصدد الخلاف على صوابية منهج وبطلان منهج اخر، نحن نريد أن نصل الى مرحلة لا يتم استخدام السلطة والجيش والقوة في قتل المخالف، ومطاردة الرأي الآخر ،ونريد أن نصل الى مرحلة ينتفي فيها فرض وجهة نظر أحادية على الأمة بقوة السلاح، وأن نغادر مرحلة يكون فيها رئيس غير منتخب، ولا يجوز أن يمارس أحد السلطة دون استناده الى شرعية الصناديق النزيهة، ويجب أن نتفق على مغادرة المرحلة العرفية، ومرحلة قوانين الطوارئ، التي تم فرضها على الشعوب العربية سنوات وعقود طويلة.
ينبغي التوقف عن وصف حكم قد عطل الدستور وعطل القانون، وفرض حالة الطوارئ، والقوانين العرفية بأنه نوع من الديمقراطية، ويجب أن تتوقف الأقلام عن مخادعة الجماهير وتضليلها، وينبغي في مقابل ذلك الاسهام في التخلص من الأزمة التي صنعها الانقلابيون الجدد، ويجب الاسهام الجماعي من كل العقلاء بوقف المجازر ووقف الجرائم ووقف سفك الدم، والرجوع بمصر الى شعبها الواحد الموّحد خلف شرعية دستورية قابلة للتطوير والتحسين عبر الحوار السلمي الحضاري الهادئ، البعيد عن لغة الدبابة والرشاش.
عدم استماع هؤلاء الانقلابيون الى صوت العقل وصوت الحكمة، وعدم الانصياع الى الشرعية الدستورية يسير بالدولة الى مستنقع العنف الدموي الرهيب ويسير بالمجتمع نحو ازمة الانقسام العميق الذي لا نهاية له ولا أفق.
( الدستور )