الاعتصام والإعلام!

للاعتصام تعريف وحدود ما ان يتجاوزها حتى يتحول الى عشوائيات جديدة؛ لأن متطلبات استمراره تجتذب اصحاب مهن وخدمات وكأنه عينات من حياة اجتماعية بديلة، لكن الاعلام الذي يعالج ظاهرة الاعتصام له تعريفه وحدوده ايضا، وحين يفقدهما تتسلل اليه عشوائية من طراز آخر، هي ذهنية وثقافية بامتياز، وخطورته ان يستمر بعد فض أي اعتصام؛ لأنه رهينة عادات وأداء استمرا عقوداً، وما حدث في مصر ليس المثال الوحيد في هذا السياق رغم اقترابه ميدانياً من الأمثولة، فالاعتصام الذي استمر اكثر من اربعين عاماً في مناطق سكنية كانت له أعراض جانبية منها اصابة الحياة اليومية للمواطنين بالشلل، ومقابل ذلك كان للاعلام المواكب معه أعراض جانبية ايضاً، لكنها ذات خطورة بالغة على الوعي.
وحين يستخدم مصطلح الافراط في استخدام القوة للأمن والشرطة في أي مكان، ينسى الناس ان هناك افراطاً اعلامياً غالباً ما تفرزه ثقافة ذات موروث عصبي، بحيث يندفع بقوة وبنفوذ العدوى الى أقصى المواقف، وقدم لنا المثال المصري أنموذجاً لفضاء احتكاري، فمن يبث أخبار رابعة العدوية والنهضة لا يذكر شيئاً عن الأماكن الاخرى التي يحتشد فيها أناس مختلفون فكراً وموقفاً والعكس صحيح ايضاً.
انه أنموذج لحروب فضائية هي انعكاس ميكانيكي لحروب ارضية، فالفضاء الإعلامي العربي عندما حاول التحليق عالياً وضد جاذبية الواقع السياسي حدث له ما حدث لعباس بن فرناس.
ولو شئنا تقديم تحليل أولي لما اسميه الافراط الاعلامي، فان هذه الظاهرة شأن غيرها من الظواهر التي رسختها ثقافة احادية البعد، لم تغادر ذهنية داحس والغبراء والغساسنة والمناذرة، فالثنائيات مستمرة لكن بتجليات جديدة وبأسماء حديثة توشك ان تضلل الرأي العام فيتصور الناس ان هناك تغيرات جوهرية حدثت بالفعل.
والحقيقة انها تغيرات سطحية وشكلانية ولا صلة لها بالمضمون، تماما كما هي الحال في كل مشاهد الحداثة الزائفة التي تخفي وراء قشرتها المزخرفة تخلفاً مزمناً.
فالخطاب الاعلامي والسياسي لا يتغير لمجرد التلاعب بالبلاغة ومترادفات اللغة، خصوصاً حين تكون هذه اللغة امبراطورية مترامية الاطراف من المترادفات، كما ان الحداثة ليست في الازياء أو المقتنيات أو اعوجاج اللسان للرطانة ببضع كلمات أجنبية، لهذا ما ان تكشط القشرة حتى يظهر على الفور تحتها الطين وما يعشش فيه من حشرات أو بمعنى آخر كما يقول المثل المعروف تحت الرخام سخام!
والقواسم المشتركة بين النظم والمعارضات في العالم العربي تفتضح الحاضنة العقلية والمهاد التربوي والثقافة لكلا الطرفين!
وهذا ما يحدث للاعلام ايضاً، فهو لم يغادر خمسينيات القرن الماضي عندما كان الوريث النجيب للحطيئة، وشعراء المديح والهجاء في الجاهلية وما بعدها!
وحليمة هذا الاعلام التي ينقصها الحلم تعود الى عاداتها القديمة كلما ارتطم كوز بجرة!
( الدستور )