إنهم يطفشون المعلمين

تم نشره الجمعة 04 أيلول / سبتمبر 2009 01:31 صباحاً
إنهم يطفشون المعلمين
موسى إبراهيم أبورياش

استيقظت المعلمة حديثة التعيين مبكرة، وقلبها يمتلئ سعادة وسروراً، فهذا هو يومها الأول في المدرسة، بكل براءة تتخيل المدرسة حديقة وزهوراً ونبعاً للمحبة والعطاء، ارتدت ملابسها وهي تدندن بأغنية طفولية عذبة (مدرستي ما أحلاها)، ودعت أمها وإخوتها طالبة منهم الدعاء لها وأن يشاركوها سعادتها، ويوم ميلادها الجديد، نزلت إلى الشارع تنتظر الحافلة (الباص)، جاءت حافلة مكتظة بالركاب جلوساً ووقوفاً ولم تتوقف لها، وجاءت حافلة ثانية وثالثة، وتوقفت لها الحافلة الرابعة، وبعد أن استنهض (الكونترول) نخوة بعض الشباب ليجلسوها، جلست على مقعدها .

 

بعد رحلة حسبتها دهراً  وصلت إلى مدرستها متأخرة عن الطابور الصباحي، دخلت المدرسة متعثرة الخطى، وسألت عن الإدارة، سلمت بحياء واحترام على المديرة وعرفتها على نفسها، جحرتها المديرة وقالت لها: شو يا مس، من أولها متأخرة؟؟ أول مرة سماح خاصة وإنك سنفورة، ولكن من الغد كل شيء بحسابه، اذهبي إلى المساعدة وخذي برنامجك وإلى حصصك حتى لا يضيع وقت الطالبات دون فائدة.

 

شعرت المعلمة بصفعة قاسية على وجهها، همت بالانسحاب والعودة إلى البيت، ولكن صعبت عليها نفسها وكرامتها أن تعلن الهزيمة من أول يوم، بل من أول ساعة. ذهبت إلى المساعدة وكتبت برنامجها، وشددت عليها المساعدة أن تسارع إلى حصصها قبل أن تخرج المديرة لتفقد الصفوف. طلبت الكتب كي تستعين بها، قالت لها المساعدة: دبري حالك من الطالبات، وفي الاستراحة (الفرصة) تستلمي الكتب من السكرتيرة المشغولة حالياً. هبت واقفة واستعانت بآذنة كي تدلها على الصف.

 

ولما دخلت المعلمة الصف استقبلتها أصوات من كل ناحية، أخذت نظرة عامة للصف فوجدت نفسها لا تكبر طالباتها إلا قليلاً. بعد جهد جهيد أسكتت الطالبات وعرفتهن على نفسها، سمعت همهمات وهمسات هنا وهناك، تحدثت مع الطالبات عن مادتها وأهميتها، سمعت ضحكات ساخرة واستهزاء من كل ناحية، كتمت غيظها، وطلبت كتاباً، فلم تجد وأخبرتها الطالبات أنهن لم يحضرن كتب المادة لعلمهن أن لا معلمة للمادة بعد. طلبت من إحدى الطالبات أن تبحث في الشعب الأخرى دون جدوى. عادت تتحدث عن عموميات مادتها وضرورتها للحياة وأنه لا يمكن أن تفهمها الطالبات دون متابعة مستمرة. تحدثت طالبة بكل صلافة: عادي يا مس، كل معلمة بتحكي هيك، بس دائماً بننجح في المادة دون دراسة جدية. صدمت المعلمة واحمر وجهها. قالت: من تبحث عن التميز والتفوق يجب أن تدرس وتجتهد. رفعت طالبة صوتها: إذا وجدت من يهمها التميز يا مس!! سرت ضحكات في أرجاء الصف زادت من ارتباك المعلمة واحمرار وجهها. وأنقذها من الموقف جرس انتهاء الحصة.

 

أسرعت المعلمة تبحث عن شربة ماء، فلم تجد، بلعت ريقها ورطبت شفتيها ببعض ماء من صنبور ينز قطرة بين ساعة وساعة، مضت الحصة الثانية والثالثة كالحصة الأولى مع اختلاف ببعض التفاصيل الهامشية، ولما قرع جرس الاستراحة تنفست الصعداء وهي تتوقع استراحة حقيقية، ذهبت إلى غرفة المعلمات، فوجدت مقاعد محدودة وأغلب المعلمات يجلسن فوق الطاولات أو على أرضية الغرفة فوق لوح كرتون أو سجادة صلاة، لم تجد ماءُ ولا كأس شاي ولا شيء يوحي أن ثمة استراحة تعيشها، شعرت أن الاستراحة هي عقوبة من نوع ما. حاولت أن تستلم كتبها فوجدت السكرتيرة قد غادرت إلى المديرية لإنجاز بعض المعاملات.

 

أكملت يومها بشق الأنفس، ومن ثم جرجرت قدميها إلى موقف الحافلة، وركبت بعد انتظار حسبته شهراً، عادت إلى البيت وهي تشعر بالقهر والهزيمة وانعدام الثقة بالنفس، وكأنها عادت من معركة خاسرة فقدت فيها كل شيء. دخلت غرفتها وطلبت أن لا يزعجها أحد فهي مرهقة وتريد أن تنام، أغلقت الباب وارتمت على فراشها باكية، لا تدري هل تبكي على نفسها ... على فجيعتها ... على طالباتها ... على كل شيء ... بكت كما لم تبك من قبل ... وبعد أن أنهكها البكاء ذهبت في سبات عميق لم تستيقظ منه إلا بعد الغروب.

 

استيقظت من نومها فزعة مذعورة ... فقد تذكرت كابوساً مرعباً ... فركت عينيها ... ضربت رأسها براحتها ... تأكدت أنه لم يكن حلماً، بل كان حقيقة عاشتها بكل جوارحها، اتخذت قرارها بكل حزم.

 

خرجت إلى عائلتها، جلست بينهم، وأخبرتهم أن لا عودة للمدرسة، فقد كانت تجربة مرة لن تجازف بالعودة إليها يوماً ما، حدثتهم عن أحداث يومها، وما لقيت من عناء وتعب وإهمال، بكت أمها واحتضنتها، وأثنت على قرارها بترك المدرسة.

 

ما حدث مع المعلمة يحدث مع كل معلم ومعلمة بشكل أو بآخر، وقليلة هي النماذج الإيجابية، صحيح إن التربية قد رتبت دورات مسبقة لتدريب المعلمين، ولكن هذا الدورات لا ترقى إلى المطلوب من حيث الإعداد والتنفيذ، وهي بحاجة إلى إعادة نظر جذرية.

 

المطلوب إعادة النظر في أسلوب تدريب المعلمين واستقبالهم في مدارسهم، وأن تكون الأولوية لأنشطة تحبب إليهم مهنة التعليم وترغبهم بها، وأن يجدوا منذ اللحظة الأولى الحفاوة والتقدير والاحترام، وأن يلمسوا من الجميع الحرص والالتزام والدقة والعدالة في كل شيء، وأن يسعى الجميع لتقديم الدعم لهم والأخذ بأيديهم بكل جدية نحو طريق التعليم وأن يوفروا لهم كل خدمة وعون ممكن، وأن يكون التدريب متقناً وفعالاً وذا مساس مباشر بعمل المعلم.

 

إن بقاء الأوضاع على ما هي عليه يعني بكل صراحة أننا نطفش المعلمين متعمدين، ونعمل على تهريبهم من مهنة التعليم، وإلى أن تتغير الأحوال كان الله في عون معلمينا ومعلماتنا، ولكم الله وكان الله في عونكم، فالبحر من أمامكم ومن خلفكم ومن حواليكم، فليس لكم والله إلا الصبر ثم الصبر بعد الصبر!!!

 

 

mosa2x@yahoo.com 



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات