دفعٌ ورفعٌ بلا اندفاع على ضوء شريعة الدفاع
أكثر من مرة استوقفتني خلال دراسة علم المنطق فيما فات من قطار العمر، عبارة (الإنسان حيوان ناطق)، وهي معادلة يقول بها المناطقة لتمييز الإنسان بالعقل والنطق والتفكير عن غيره من ذوات الأرواح كالحيوانات البرية والبحرية والطائرة وغيرها، المنظورة وغير المنظورة، ومن الظريف أن الفهم القاصر لمعنى كلمة (الحيوان) أدخل البعض في سفسطة (الحَيْوَنَة والدونية)، فاستشكل على المناطقة تشبيه الإنسان بالحيوان كرامة له وانتصاراً له، مع أن المراد بالحيوان هي الحياة بالمعنى العام لا الحيوان الجنس بالمعنى الخاص، ومع هذا فإن الإنسان الجنس والحيوان الجنس يشتركان في بعض التصرفات النابعة من الفطرة وطبيعة الخلقة، فالحيوان يتألم مثلما يتألم الإنسان، والحيوان يخاف مثلما يخاف الإنسان، ويعمل الحيوان بالتقية في مواجهة الأخطار المحدقة مثلما يمارسها الإنسان، ويتخندق الحيوان ويمارس أقصى حالات الدفاع مثلما يفعل الإنسان في مثل هذه الظروف دفاعاً عن النفس والمال والعرض، فالأب يدافع عن نفسه واسرته أمام عدو آدمي أو وحش كاسر، والحيوان يدافع عن نفسه وعن أسرته في قبال الآخر الآدمي أو الأقوى منه من الحيوانات، فالإنسان المدرك للخطر يموت دون ماله وعياله وعرضه ووطنه، ولا يختلف الأمر مع الحيوان غير الناطق بالمعنى المناطقي، فما كان فطريا يشترك فيه الجميع، والدفاع عن النفس من النوع الفطري المطبوع عليه الإنسان والحيوان.
ولما كان الإنسان بما أكرمه الله من نعمة العقل هو المسؤول الأول عن الأرض وما فيها وما يحيط بها، فإن دفاعه أمام العدو لا يقتصر على النفس أو العرض أو المال أو الوطن، وإنما تتسع لتشمل الزرع والضرع ولكل من يدب على وجه الأرض أو يسبح في الجو، لأن الأصل في خلقة الإنسان هو إعمار الأرض، قال تعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) هود: 61، أي أعمركم فيها، فإلانسان مأمور باعمار الإرض وخلق على احياء ثنائية البلاد والعباد واصلاحهما، وهذا يقتضي الدفاع عنهما بكل الطرق المتاحة، ومن الطبيعي أن تكون هناك تشريعات لعملية الدفاع تمنع الإنسان من الإعتداء على الآخر، وبيان حدود الدفاع حتى لا يتحول العمران الى خراب وهدٍّ للبنيان، وهذا ما يتابعه بعين الفقاهة آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في كتيب "شريعة الدفاع" الصادر حديثا عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 48 صفحة من 76 مسألة، علّق عليها القاضي الفقيه الشيخ حسن رضا الغديري في 29 مسألة مع مقدمة وافية.
احتلال لا استعمار
يتعرض المجتمع المسلم في كل الأقطار الى غسيل دماغ من جوانب مختلفة، ومن ذلك جانب المصطلحات المتداولة في ثقافتنا اليومية وأدبياتنا، وأخطر أنواع الغسيل عندما يأتي من أبناء الجلدة الواحدة الذين يشكلون في المجتمع لسان حال الآخر المتربص بالأمة شرّاً، وعيونه، فطلبتنا حتى يومنا هذا في عدد غير قليل من البلدان تقع عيونهم على كلمة الإستعمار للإشارة للقوات الغربية والشرقية التي احتلت البلدان الإسلامية، فصار ما هو ايجابي في أبجديتنا العربية سلبياً وبالعكس، فالإستعمار وهو مفهوم ايجابي غاية في البناء والعمران أصبح ممقوتاً حتى بتنا نكره استخدامه، والحق أن يقال لها قوات محتلة لا مستعمرة، فليس من ديدن القوات المحتلة الإعمار والبناء حتى يُقال لها مستعمرة أو استعمار، فالثقافة الغربية سلبتنا ثقافتنا وفرضت علينا الإغتراب الثقافي في عقر دارنا وشلّت فينا قدرة الدفاع حتى عن مصطلحاتنا الحيوية والقيَمية، ولطالما يوصي المحقق الكرباسي في كتاباته المتنوعة وفي لقاءاته مع ضيوفه من الشخصيات بأطيافها المختلفة على ضرورة الإحتفاظ بالثقافة العربية والإسلامية، وضرورة توثيق العدوان الأجنبي على أنه احتلال لا استعمار، وعلى أهمية إعادة الحياة الى مصطلحاتنا التي صادرتها الأدبيات الأجنبية أو حاولت تهجينها حتى باب البعض يخجل من استعمالها في كتاباته حتى لا يأخذه القارئ على محمل السوء.
بل إن الدفاع عن ثقافة المجتمع وأدبياته هو جزء من وقاية المجتمع من السقوط في وحل الإحتلال وثقافته، أو الإنحلال في ثقافة الغير، ناهيك عن الأمور الحيوية الأخرى، فالدفاع بشكل عام كما يؤكد الفقيه الغديري في المقدمة: (من أهم الأمور التي تجب على الإنسان شرعاً وعقلاً هو الدفاع عن كل ما يتعلق بحياته من النفس والمال والوطن وغيرها، ولا يجوز الإهمال فيه)، وهو أمر فطري يقبله العقل والشرع، إذ أنَّ: (الدفاع والقيام بدرء الخطر وإن كان هو من أهم الأحكام في الدين الإسلامي الحنيف إلا أن العقل السليم يحكم بذلك أيضا ويؤكد على ذلك، ولاشك في أن كل ما حكم به العقل حكم به الشرع، وهذا التلازم تُشاهد آثاره في الحياة الإجتماعية بصور مختلفة).
والدفاع كما في اللغة دفع الشيء، وهذا يتطلب في مجال المصداق العام درء الخطر ودفعه، وإذا وقع يجب إزالته ورفعه، أي وكما يؤكد الفقيه الكرباسي في التمهيد أن: (الدفاع هو درء الخطر المتوجه الى الإنسان ومصالحه بكل ما أوتي من قوة حتى وإن كان بالقتال حسب الحاجة)، فالدفاع في واقعه الوجه الجلي للجهاد، فمجاهدة النفس عن الوقوع في الخطأ هو من أعظم حالات الدفاع وهو جهاد فرض وعين قائم ما دامت حركة الشهيق والزفير قائمة في صدر الإنسان منذ بلوغه عتبة التكليف حتى بلوغه عتبة القبر، ومجاهدة القوات المحتلة أو المعتدية والباغية هو دفاع وإن سالت فيه الدماء، والحرب حربان حرب ابتدائية وحرب دفاعية، وكل حروب النبي محمد(ص) كانت من النوع الثاني وكما يؤكد الفقيه الكرباسي: (إذا ما ألقينا نظرة عامة على الحروب التي قادها الرسول(ص) خلال عشرة أعوام بلغت 91 طلعة بدءاً من رمضان العام الأول للهجرة وانتهاءً بـ 22/11/10هـ فإنها لا يمكن اعتبارها حرباً ابتدائية بل التحقيق نتوصل إلى أن جميعها تصب في خانة الحرب الدفاعية)، وهذه حقيقة أثبتها المحقق الكرباسي بالدليل والأرقام في الصفحات 276-296 في الجزء الأول من كتاب "العامل السياسي لنهضة الحسين" وهو أحد أجزاء دائرة المعارف الحسينية التي صدر منها حتى يومنا هذا 80 جزءاً، ولعل أهم الأسباب التي تقف في الصدارة أن الإسلام هو أسم على مسمى قائم على السلم والسلام ورفض الحرب وإطفاء وقودها.
ولا يخفى أن جهاد النفس مقدم على جهاد العدو، بل لا يستقيم أمر الدفاع في الثاني إلا بحضور أمر الدفاع في الأول، وبتعبير الشيخ الكرباسي: (إن جهاد النفس والدفاع الإبتدائي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة، كلها معاً تقع في حلقة واحدة أحدهما يكمل الآخر)، وهذا يقتضي لوازم عدة على قدر كبير من الخطورة، يُبيّن الفقيه الكرباسي أهمها:
أولا: إصلاح النفس.
ثانيا: أن يكون داعية إلى الله.
ثالثا: أن يحمل فكرة الدعوة حتى وإن تعرض للأخطار ومهاجمة الأعداء.
رابعا: أن يرفع الحيف والظلم عن أمته وعن الأمم الأخرى.
خامساً: أن يتلقى الشهادة برحابة صدر.
سادساً: أن لا يخرج في كل ذلك عن العبودية الله.
فالكيان الذي يستأهل الدفاع عنه كما يذهب الى ذلك المحقق الكرباسي هو القائم على ثلاثية: (الذات والمعتقد والوطن .. فلا كيان دون أرض ولا كيان من دون مواطن، ولا مواطن من دون عقيدة وفكر)، ولا يقتصر الدفاع عن الوطن الإسلامي، بل يؤكد الفقيه الكرباسي أن: (المواطن في الدول غير الإسلامية هو الآخر مسؤول عن الدفاع عن البلد الذي يستوطنه إذا وقع اعتداء عليه من دولة معادية بنظر الإسلام) ويثنّي الفقيه الغديري على المسألة بوجوب الدفاع عن الوطن في الدول غير الإسلامية: (إذا كان المهاجم ظالماً وجائراً ويقصد التخريب أو الإستيلاء من دون وجه شرعي وإنساني).
للدفاع حدود
من أخطر المسائل في شريعة الدفاع أن يقوم المدافع بتجاوز حدود الدفاع إلى الإعتداء على حريم الآخرين ويفرط في ذلك تحت يافطة الدفاع المقدس، ولذلك حتى في الدفاع عن النفس في المسائل الشخصية دون المسائل العامة التي هي بحاجة الى إذن ولي الأمر أو حاكم الشرع أو السلطة الشرعية، لابد من مراعاة الحدود، فعلى سبيل المثال: (إذا أمكن الدفاع عن نفسه دون القتل وجب، ولا يجوز له القتل)، لكن الشيخ الغديري يستدرك على المسألة بقوله: (لا يجب عليه الفحص والبحث من طرق الدفاع دون القتل، بل لو أمكن وتيسّر الدفاع دونه من دون التكلّف فعليه اختيار ذلك لو صادف القتل فلا شيء عليه)، وما ذهب إليه الفقيه الكرباسي هي من المسائل التي يُعمل بها قضائيا في عدد من البلدان المتحضرة، فليس من حق صاحب الدار على سبيل المثال استعمال القوة المفرطة مع اللص إذا أمكن القبض عليه، بل أن القضاء يُحاسب صاحب الدار إذا مارس العنف وبخاصة الجسدي، ولهذا تنصح الشرطة البريطانية على سبيل المثال بعدم ملاحقة اللص ولاسيما المسلّح إذا فرّ من الدار أو المحل حتى وإن حمل بما خفّ وزنه وغلى سعره، وتمنع إطلاق النار عليه، لأنّ قتله يدخل المسروق في خانة القاتلين العمد لخروجه من دائرة الدفاع عن النفس. ربما يصعب على البعض هضم المسألة، ولكنها أمر واقع، فليس من الدفاع استعمال القوة المفرطة إلا بحدودها.
ولإن الإسلام دين المحبة والسلام، فإنه ينشد السلام حتى عندما يتعرض الى العدوان، فاذا ما تقابل الجيشان يتقدم طرق أبواب النصحية والإرشاد على دق طبول الحرب والإنشاد، وهذه كانت سياسة نبي الإسلام في الحروب، صحيح أنه في الحرب العدوانية كما يذهب الفقيه الكرباسي: (لا يجب وعظ المهاجمين والمحتلين، ولكن لا يسقط الاستحباب)، ولكن: (إذا كان في الوعظ من فائدة للكف عن الهجوم وجب)، ولنا في الإمام الحسين(ع) أسوة حسنة ومن قبل شقيقه الإمام الحسن(ع) ومن قبله والدهما الإمام علي(ع) وقبلهم جده محمد بن عبد الله(ص) إذ كان الوعظ ديدنهم في المعارك لأن الإسلام يريد حياة الإنسان لا موته، فإذا كان في الوعظ من فائدة أشهر الواعظ سيف اللسان وأعمى حدَّ السنان والهداية من الرب المنان.
ومن المفارقات أن مسائل الدفاع وخاصة في مجال الحرب تخضع لقاعدة الهرم المقلوب عكس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القائم على قاعدة الهرم السوي حيث يبدأ باليد ثم باللسان ثم بالقلب وهو أضعف الإيمان، لذلك كما يشير الفقيه الكرباسي: (تجوز الهدنة ولا يجوز التنازل عن أي شبر من أراضي الوطن إذا كان في الهدنة مصلحة للمواطنين والوطن، كتحسين الموقع الدفاعي أو الحصول على شروط أفضل)، وعلى قاعدة الهرم المقلوب في المسائل الدفاعية: (إذا أمكن العمل على استرداد الأرض أو المواطن عبر الحوار والضغط الدولي فهو مقدّم على القتال، شرط أن لا يوجب الحوار الى التنازل أو المهادنة)، والتأكيد على قاعدة الهرم السوي في مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقاعدة الهرم المقلوب في مسائل الدفاع في الحروب نابع من خطورة جهاد النفس وعظمه حيث يعد المقدمة الأهم لجهاد العدو والمحتل، فصيانة المجتمع من الداخل يقطع الطريق على أي عدو يفكر في العدوان، كما أن تقوية الجبهة الداخلية مدعاة لتقوية الجبهة الخارجية، ثم أن التأكيد على الوعظ والحوار حتى في ساحة المعركة تأكيد على روحية الإسلام في نشر السلم ونسائم الخير ودرء الحرب وسموم الشر.
فالسلم مقدم على الحرب والدفاع وسيلة فضلى لمنع وقوع الحرب، والأمن هو شعار الإسلام، بل وشعار الإنسانية وكل صاحب عقل وبصيرة، وليس لكل إنسان أن يطبق شرع الله في المؤالف إذا شطح والمخالف إذا جنح، فهناك موازين وحدود استطاع الفقيه الكرباسي في هذا الوجيز أن يبيّنها بأسلوب فقهي واضح، وحسب تعبير الفقيه الغديري حتى: (يكون الإنسان على معرفة بأحكامه العامة والخاصة لكي لا يخرج عن دائرة الدين في أخذ القرار، أي قرار كان سواء كان في الدفاع عن نفسه أو ماله أو عرضه أو وطنه أو دينه، فالعبرة بما هو مرضي عند الرب الكريم، ويكون لهذا الوجيز هادياً ومرشداً ودليلاً لكل طالب للهداية إلى الصراط المستقيم، والحفاظ على نعم الله تعالى من الوجود والموجود بوجه مطلوب إن شاء الله).
الرأي الآخر للدراسات- لندن