تركيا وحسابات الضربة العسكرية

تتصرف تركيا على أساس أن الضربة العسكرية الغربية (الأميركية) ضد النظام السوري واقعة لا محالة، لكنها تسعى بقوة إلى معرفة حجم هذه الضربة وما يمكن أن تحققه.
وفي جميع الأحوال تأمل حكومة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان أن تؤدي هذه الضربة إلى إسقاط النظام، إن لم يكن بشكل مباشر فجعله منهكا، يقبل برحيله ولو عبر عملية سياسية من طراز جنيف2، أو تمهد الطريق على الأرض للمعارضة العسكرية لإسقاطه.
ضربة تسقط النظام
تركيا التي قطعت علاقاتها مع النظام السوري، وبنت حساباتها السياسية تجاه الأزمة السورية على أساس مرحلة ما بعد نظام الرئيس بشار الأسد، تبدو الدولة الإقليمية الأكثر حماسا لتوجيه ضربة عسكرية للنظام السوري.
فمع تفجر قضية استخدام الأسلحة الكيميائية، والإعلان الأميركي عن ضرورة معاقبة النظام السوري، سارعت تركيا على لسان وزير خارجيتها أحمد داود أوغلو إلى الإعلان عن الاستعداد للانضمام لأي تحالف دولي، ولو من خارج الأمم المتحدة في حال عدم حصول توافق على الضربة.
واستبق رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان الأمر بالقول إن "تسديد ضربات محدودة لسوريا لن يكون كافيا ولن يرضي تركيا"، مشيرا إلى أن الضربة يجب أن تكون شبيهة بتلك التي تمت ضد يوغسلافيا.
بموازاة هذا الاستعداد للمشاركة في أي عملية عسكرية ضد النظام السوري، تحركت تركيا سياسيا وقانونيا وأمنيا، في إطار الاستعداد للحرب من خلال النقاط التالية:
- تقديم الحكومة طلبا للبرلمان التركي لتجديد التفويض للجيش بالتدخل العسكري في سوريا إذا دعت الحاجة، وهو تفويض كان أعطي للجيش التركي أواخر العام الماضي وينتهي في بداية الشهر المقبل (أكتوبر/تشرين الثاني).
ورغم أن المعارضة التركية أعلنت رفضها مشاركة تركيا في التدخل العسكري ضد سوريا، فإنه من الواضح أن قضية تجديد التفويض للجيش بالتدخل تبدو عملية سهلة، في ظل الغالبية التي يملكها حزب العدالة والتنمية في البرلمان.
- تشكيل خلية أزمة تضم عسكريين وسياسيين لإدارة العملية، وإعلان حالة الاستنفار العسكري التام، إذ للمرة الأولى منذ عقد تم إعلان الإنذار البرتقالي في قاعدة ديار بكر الجوية.
وينم هذا الإنذار عن الخطر من الدرجة الثانية في إطار الاستعداد لأي هجوم تقوم به المقاتلات التركية داخل الأراضي السورية، حيث تقول تقارير تركية إن عدد الطائرات المستعدة للهجوم في قاعدة ديار بكر بلغ قرابة مائة طائرة، بعدما تم تجهيزها بالذخيرة والمؤن اللازمة للهجوم، وقد ألغيت الإجازات واستدعي من كان فيها.
- بموازاة هذه الخطوات لا تتوقف حركة الاجتماعات والمشاورات العسكرية، وكذلك إجراء اجتماعات متواصلة مع كبار القادة العسكريين من الحلف الأطلسي وبعض الدول العربية ومن المعارضة العسكرية السورية.
ومجمل هذه التحركات كما هو واضح تتجاوز في دلالاتها النية أو الرغبة في ضربة عسكرية محدودة بقدر ما تشير إلى الاستعداد لعملية عسكرية واسعة وربما الحرب الشاملة.
موقع تركيا من الضربة
تحتل تركيا -التي تربطها حدود طويلة مع سوريا تقارب 900 كيلومتر- موقعا إستراتيجيا حيويا في أي عملية عسكرية ضد سوريا، فهذه الدولة التي وقعت أول اتفاقية مع الولايات المتحدة في مايو/أيار عام 1830، وهي الاتفاقية التي حصلت من خلالها الولايات المتحدة على حقوق (الأمة المفضلة) توجد على أراضيها اليوم أكثر من مائة قاعدة أميركية وأطلسية مشتركة، وفيها أكثر من عشرة آلاف خبير وعسكري أميركي.
وبالإضافة إلى ذلك تحتل مكانة إستراتيجية في السياسة الأميركية تجاه مختلف الدوائر السياسية في العالم، واللافت هنا هو أن هذه القواعد العسكرية تتوزع في كافة الاتجاهات وعلى المنافذ البحرية.
ومن أهم هذه القواعد: قاعدة سينون على البحر الأسود والتي تعد من أهم مراكز التنصت في المنطقة، قاعدة إنجرليك على البحر المتوسط وهي من أكبر مخازن الأسلحة الثقيلة الأميركية في المنطقة، وهناك قاعدة أزمير على البحر المتوسط، وقاعدة ديار بكر في الشرق، وتعدان من أكبر القواعد الجوية للطيران الأميركي.
ومن هذه القواعد أيضا قاعدة سيجلي على بحر إيجه التي تعد مقر القيادة للقوة التركية التكتيكية السادسة للحلف الأطلسي، والمخصصة لأغراض المباغتة، إضافة لأعمال شبكات التجسس الإلكترونية لجمع المعلومات عن التحركات العسكرية، خدمة لبرنامج الدفاع الإستراتيجي الأميركي.
في الواقع، من الواضح أن هذه القواعد العسكرية الإستراتيجية، والعلاقة المتينة لتركيا بالمنظومة العسكرية الأميركية الأطلسية تعبران عن أهمية موقع تركيا في الإستراتيجية الأميركية من جهة، وفي الوقت نفسه تعبر عن المصالح التركية العليا من جهة ثانية، على اعتبار أنها تحقق لها التفوق العسكري على دول المنطقة، وتعطيها قوة التأثير والتحرك في الأزمات والحروب.
وانطلاقا من هذه الميزة العسكرية التركية، ودور تركيا المتقدم في الحلف الأطلسي شرقا، فإنه يتوقع أن تقوم تركيا بدور رأس الحربة في أي عملية عسكرية أو حرب ضد سوريا، خاصة وأن الجهود تصب في جعل قاعدة أزمير العسكرية مركزا لإدارة مثل هذه العملية.
وكانت قاعدة أزمير قد استضافت قبل أيام اجتماعا عسكريا لكبار القادة العسكريين من 12 دولة أطلسية وعربية في إطار التنسيق والتشاور الأمني والعسكري بشأن الأزمة السورية.
من الواضح أن تركيا -التي نشرت مؤخرا على أراضيها الدروع الصاروخية الأميركية وبطاريات باتريوت- تستعد للعملية العسكرية وكأنها واقعة غدا أو الأسبوع المقبل.
وفي سبيل ذلك قامت برفع درجة التأهب، إذ أن هدير محركات المقاتلات الحربية لم يعد يتوقف، فيما تتحرك الدبلوماسية التركية في كل الاتجاهات لجعل العملية العسكرية في أقرب وقت ممكن، بعد أن قطعت كل اتصالاتها مع النظام السوري، وجعلت من إسقاطه هدفا إستراتيجيا لها.
معارضة محدودة وخشية من تداعيات
عمليا لا توجد معارضة تركية قوية يمكن أن تؤثر على القرار التركي بالمشاركة في الحرب، خاصة في ظل التفويض الحاصل من قبل البرلمان للجيش بالتدخل العسكري في سوريا، على غرار التفويض الموجود بضرب حزب العمال الكردستاني في إقليم كردستان العراق.
وعليه، فإن موقف المعارضة -الذي يتراوح ما بين الرفض (حزب السلام والديمقراطية الكردي) أو التحفظ دون قرار دولي (حزب الشعب الجمهوري، وحزب الحركة القومية)- يظهر وكأنه موقف فاقد للقدرة على إعاقة قرار المشاركة في العملية العسكرية.
كما أن الأوساط اليسارية التي تتخذ من مظاهرات ساحة تقسيم بإسطنبول قاعدة للرفض والاحتجاج لا يبدو لها تأثير في منع قرار المشاركة، طالما أن حزب العدالة والتنمية الذي يسيطر على الرئاسات الثلاث (البرلمان، الحكومة، الرئاسة) ويملك أكبر شعبية في البلاد قادر على وضع القرار في الإطارين القانوني والسياسي للمصلحة التركية العليا.
لكن ما سبق لا يعني عدم وجود تباين في أوساط الدولة التركية نفسها من الضربة كما تقول الصحف التركية، فهذه الصحف تتحدث عن تباين بين رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته أحمد داود أوغلو والرئيس عبد الله غل بشأن نوعية الضربة وحجمها ومدى المشاركة التركية فيها.
وتنقل هذه الصحف عن الرئيس غل وأوغلو ضرورة أن تكون الضربة في إطار عملية إستراتيجية تأتي بنتيجة سياسية مدروسة، فيما تنقل عن أردوغان ضرورة حرب شاملة واستمرار العمليات العسكرية إلى حين إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد.
ولعل مصدر التباين -كما تقول الصحف التركية- هو خشية بعض الأوساط التركية من أن تتحول الأراضي التركية إلى ساحة مكشوفة للصواريخ السورية، وكذلك الخشية من أن تدخل إيران إلى ساحة المواجهة العسكرية في ظل الاستماتة الإيرانية في الدفاع عن النظام السوري، فضلا عن حزب العمال الكردستاني خاصة في ظل مؤشرات تعثر عملية السلام بين الحزب الكردستاني والحكومة التركية.
وبانتظار قرار الكونغرس الأميركي -الذي رمى الرئيس باراك أوباما الكرة في مرماه- فإن تركيا تسخن أراضيها لعملية عسكرية أو حتى حرب شاملة، بعد أن ربطت بوصلة سياستها الخارجية ومشاريعها الإقليمية المستقبلية بإسقاط النظام السوري.
( الجزيرة )