إضاءات حول الموقف السوري

الجدل الدائر في الأروقة العالمية والدولية حول معالجة الضربة الكيماوية التي حصدت أرواح (1500) سوري مدني في غوطات دمشق ما زال خارج دائرة الحسم، ويعبّر عن مزيج من اختلافات معقدة في العلاقات والمصالح المختلطة والمعقدة التي تكاد تستعصي على التنبؤ بموقف واضح محدد.
أوباما الذي جاء الي مقعد الرئاسة على خلفية الرأي العام الأمريكي الذي استقر بأغلبية واضحة على فشل التدخل العسكري في كل من أفغانستان والعراق، والذي لم يستطع تحقيق الأهداف المرسومة لهذا التدخل، حيث تعرضت أمريكا لخسائر فادحة على مستويات عديدة أهمها الاقتصاد الذي يقدر «بالتريليونات من الدولارات» والذي يحتاج الى سنوات عديدة لاعادة استئناف التعافي والانتعاش، فضلاً عن الخسارة المعنوية التي منيت بها الامبراطورية الأمريكية الأقوى في العصر الحديث، إذ تشير جملة من المؤشرات على التراجع الواضح في الحضور السياسي الأمريكي على الصعيد العالمي عموماً وعلى الصعيد العربي خصوصاً، مما يشير الى تقدم روسي حتمي نحو تعبئة الفراغ بالتعاون مع بعض حلفائها.
يتفق كل الدول على حدوث ضربة كيماوية على الأرض السورية، ولكن روسيا التي تقر بحدوث الضربة استطاعت أن تضعف الموقف الأمريكي وتخلخل الموقف الأروبي من خلال عدم القدرة على احضار الأدلة القاطعة، التي تثبت هوية الطرف الذي اقدم على استعمال هذا السلاح، مما أسفر عن ارتباك في أوساط المعسكر الذي يؤيد توجيه ضربة ضد النظام ومعاقبته على تجاوز الخط الأحمر المتفق على رسمه دولياً.
أوباما في موقف لا يحسد عليه، حيث إن الضرر الذي سوف يلحق بأمريكا فيما لو نجا النظام السوري من العقاب سوف يكون أكبر من الضرر الذي يلحق بها فيما لو ذهب في الجهة المعاكسة؛ إذ سوف يشكل ذلك انهيارا في سمعتها ويؤرخ لبداية الانسحاب المذل الذي سوف تعبئه أطراف أخرى صاعدة، وفي مقابل ذلك لا أحد يستطيع أن يتنبأ بتطورات الموقف فيما لو نشبت الحرب في ظل عدم القدرة على ايجاد تحالف دولي قادر على تحمل مسؤولية الموقف في ظل استنكاف بريطانيا وألمانيا ودول أروبية أخرى، وفي ظل رأي غربي عام غير مؤيد لتوجيه ضربة لسوريا، في ظل استقباح عالمي لإعادة استنساخ ما حدث في زمن بوش الأب والابن في ضرب العراق.
النظام السوري الذي شارك في التحالف الغربي الذي شكلته أمريكا لضرب العراق، حيث لم يكتف بالصمت أو التأييد بالكلام بل أرسل قوات سورية شاركت بالفعل باعلان الحرب على العراق، لم يخطر بباله مجيء هذه اللحظة ويصبح رأسه مطلوباً تماماً في نسخة مشابهة لما حدث مع الشقيق والجار العربي البعثي! ولذلك يجب أن يكف هو وأتباعه ومؤيدوه عن منطق تسول النخوة العربية واستجداء الإخوة القومية، والاختباء حول مقولة تصفية خط المقاومة والصمود لأنه هو أول من خرق ذلك كله علانية ودون مواربة!
فيما لو نجا النظام السوري من توجيه ضربة عسكرية، تحت وقع الاختلاف الدولي وتعقد المشهد السياسي العالمي، فلا يعني مطلقاً تملص النظام من تحمل المسؤولية الكاملة عما جرى على أطراف عاصمته وحصد الآلاف من شعبه الذي يتحمل مسؤولية حمايته، وعندما يكون عاجزاً عن ذلك وغير قادر على منع طرف ما استعمال أسلحة تدمير شامل في دولته، يجب أن يعلن عجزه، ونقص سيادته على أجزاء من أرضه حتى يتم التعامل مع هذا الوضع الشاذ !!
نحن أمام مرحلة جديدة، سوف تغير معادلات القوى السياسية التي تتحكم بالمشهد العربي من أطراف إقليمية صاعدة، تتضح من خلالها معالم تحالفات جديدة بكل تأكيد، أهمها تبادل الأدوار والاعتراف المتبادل بتقاسم النفوذ بين إيران و»إسرائيل» فعندما أقدمت إسرائيل على ضرب المفاعل النووي العراقي في أول الثمانينات من القرن الماضي، وعندما أقدمت على ضرب المفاعل النووي السوري قبل سنوات، قامت بذلك سراً وبشكل مفاجئ ودون مقدمات، بينما لم يتم ذلك مع المفاعل النووي الإيراني، وها هي إيران تسير نحو المغازلة والمهادنة والاستعداد لمرحلة سياسية مختلفة.
على كل حال الخاسر الوحيد في ظل المعادلات السياسية الإقليمية والعالمية الجديدة هم العرب، والشعوب العربية على وجه التحديد، التي تتعرض لحروب إبادة من قبل أنظمة عربية غير منتمية لأمتها ، ولم تعمل على حماية شعوبها، بل تمعن في إذلالها وهدر كرامتها وهدم مؤسساتها من أجل الاحتفاظ بكراسي الحكم التي تستمد قوتها وشرعيتها من خلال معادلات التبعية لاطراف عالمية و اقليمية ، وليس من خلال الاستناد الى شرعية شعبية أصيلة، مما يجعلها عاجزة عن بناء قوة عربية ذاتية قادرة على ايجاد قوة اقليمية قادرة على المنافسة و قادرة على حماية نفسها ومستقبل أبنائها.
عندما تنتظر الشعوب العربية الحماية من الخارج، وعندما تنتظر طاقة الفرج من خلال معادلات سياسية إقليمية فهذا يدل على وضع شاذ ومختل يتحمل مسؤولية ايجادة أنظمة غير ديموقراطية بالدرجة الأولى، ويتحمل المسؤولية بدرجة ثانية الشعوب العربية نفسها لضعفها وعدم قدرتها على امتلاك القوة الجمعية على تصحيح الأوضاع الشاذة، بسبب الانقسام الحاد بين القوى السياسية الذي أدى الى انقسام مجتمعي كبير يمنع التقدم نحو الامساك بأدوات القوة والاقدام على اتخاذ الخطوة الأولى.
( الدستور )