بناء الإنسان أولاً

ثبت بالوجه القطعي الذي يخلو من كل أسباب الشك وألوان الريبة أن أهم عامل من عوامل نجاح أي مشروع إصلاحي أو تنموي يتمثل بالقدرة على اتقان بناء الإنسان، الذي يشكل جوهر العملية التنموية، وروحها وغايتها وسر نجاحها، وفي مقابل ذلك فإن سر فشل مشاريع الإصلاح والتنمية يكمن في الإنسان نفسه، روحاً وفكراً وأداءً..
إن القفز عن هذه البديهية، والذهاب إلى استيراد الأفكار الوافدة، أو العمل على استنساخ مشاريع إصلاحية من خارج الحدود، سوف يكون ضرباً من العبث، وإمعاناً في هدر الوقت والجهد والمال في أمور شكلية ومظاهر سطحية، تتجلى بالماديات والأدوات من مبان وآلات وأجهزة ومكاتب وغير ذلك من منتجات لا تساوي شيئاً إذا كانت خالية من أناس تعمرهم الروح الصالحة والهمة الوثابة والانتماء العميق لأوطانهم وأمتهم وحضارتهم فكراً وقيماً وسلوكاً وممارسة.
نجد أحياناً كثيراً من المبادرات والجهود التي تحاول تقديم يد المساعدة للمجتمعات المحلية الفقيرة، عن طريق بناء المدارس والمراكز الصحية، وتقديم بعض الخدمات، قبل أن تقف على الحقائق الداخلية المخفيّة في نفوس أبناء هذه المجتمعات، وقبل أن تدرس أحوالهم النفسية والفكرية والروحية والثقافية، وقبل أن تشكل صورة متكاملة عن البناء الإنساني المعني بهذه الخدمة، مما يجعل القدرة على تطوير هذه المجتمعات وتحضرها ضعيفة وعاجزة عن تحقيق أهداف التنمية الحقيقية.
هذا يتطلب من كل القائمين على مجلات التحديث والتطوير المجتمعي، سواء على الصعيد الحكومي أو على الصعيد الشعبي ومؤسسات المجتمع المدني، أن يدركوا أن عملية التنمية ترتكز على منظومة متكاملة من القيم، وتتشابك مع مجموعة من الاتجاهات النفسية والفكرية والمادية، التي لا يجوز إهمالها أو القفز عنها، حيث أنه من السهل والأقل جهداً الاقتصار على الأمور المادية، وإحضار التجهيزات المادية، والأكثر صعوبة والأكثر دقة هو امتلاك أدوات البناء النفسي ومعالجة الروح، التي تتعرض للاستلاب والتهشيم والإفقار الذي يخرب معنى الحياة ويفرغها من مضمونها الحقيقي.
شعاع / بقية
كل أشكال البناء والإنجاز المادي الذي نشاهده في دول العالم المتقدم قام على أكتاف رجال ونساء تم إعدادهم وفقاً لمناهج تربوية مدروسة وأساليب علمية دقيقة، أنتجت علماء وباحثين مهرة، امتلكوا ناصية العلم، واتقنوا فن الأخذ بالأسباب، واكتشاف نواميس الحياة وأسرار الكون، فضلاً عن الغور في أعماق النفس البشرية والقدرة على صياغة الأجيال والنشىء الجديد على طريقة التفكير العلمي وطريقة التعامل مع موجودات الكون بكفاءة عالية ومهارة متطوّرة.
مشروع بناء الانسان ينبغي أن يكون مشروع المجتمع الجمعي الكلي الذي يشكل الأولوية الأولى لنا جميعاً في كل المستويات وفي كل المواقع وعلى جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما يفرض علينا امتلاك القدرة على انجاز هذا المشروع الوطني والعناية به وفقاً لرؤية واضحة ومحددة لا يشذ عنها أحد، مهما كان انتماؤه السياسي أو الفكري.
إن مساحات التوافق في هذا المشروع واسعة وممتدة، وليست ضيقة كما يتصور بعضهم، لأن من أساسيات هذا المشروع الاعتراف بالاختلاف والإقرار بالتعددية ابتداءً، مما يجعل الحرية جزءاً من تكوين الآدمي، التي لا يجوز أن تخضع للوصاية أو التقييد والمصادرة من أي طرف، تحت أي ذريعة أو مبرر، كما أن من أساسيات هذا المشروع احترام العقل وتقديره، مما يقتضي تزويده بالمنهج العلمي وطرق التفكير السليم بعيداً عن التلقين والتقليد الأعمى، الذي يتعارض مع الكرامة الأدمية، ومن أساسيات هذا المشروع الاعتراف بحق جميع المواطنين بالحياة الحرة الكريمة، وحقه في المشاركة بناء دولته وخدمة مجتمعه دون أدنى تمييز قائم على الدين أو المذهب أو العرف أو اللون أو الفكر، مما يقتضي التوافق على محاربة خطاب التحريض والكراهية والاقصاء، والتوافق على نبذ العنف واللجوء الى القوة داخل المجتمع من كل الأطراف ومن كل المكونات بلا استثناء.
سوف تنتهي كل الجهود الثورية والحركية والسياسية والتنموية الى الفشل المعتم، إذا لم يتم الشروع في بناء الانسان أولاً، وتنمية روحه، وترميم ذاته وصيانة حريته، واحترام كرامته، وتغذية عقله وامتلاكه أدوات التفكير السليم، والتعامل الصحيح مع ذاته ومع الآخرين، ومع المحيط بكفاءة واقتدار.
الأجيال الجديدة، والنشء الجديد أمانة غالية في أيدينا جميعاً، ساسة ومفكرين، وأدباء وقادة، فإما أن نجعل منهم نسخا تقليدية لنماذج فاشلة وعاجزة عن تحقيق انجاز حضاري معتبر، وأما أن نجعل منهم نماذج ناجحة ومبدعة وخلاقة، قادرة على تجاوز المحنة، وقادرة على الشروع في بناء مستقبل مختلف يخلو من الهزائم والانتكاسات المريرة، التي أضاعت الماضي والحاضر، وأسهمت في ضياع الأوطان، وتخريب الانسان.
( الدستور )