الصفقة والمرحلة الجديدة

الصفقة الأمريكية-الروسية تؤرخ لمرحلة جديدة في المنطقة، ستكون الأطراف القوية والفاعلة في المشهد السوري هي المستفيد و المنتصر على حساب الأطراف الضعيفة والمستضعفة التي سوف تتحمل الخسارة لوحدها، وتتجرع الهزيمة المرّة، عبر توافقات استعمارية، واملاءات لا مفر من الاسستسلام لها، والشروع في مسلسل التنازلات الذي لا نهاية سوى السقوط التدريجي المفضي إلى التلاشي الحتمي.
الأطراف القوية تتمثل بأمريكا واسرائيل وروسيا وإيران؛ وهؤلاء المتصارعون ليسوا جمعيات خيريّة، بل هم يتنافسون على تحصيل أكبر حصة ممكنة وأكبر قدر من المصالح المتوقعة، بعد إسدال الستار على هذا الفصل الدموي المرهب من المشهد السوري، الذي سوف يشهد التضحية بالممثلين والمنفذين والأبطال الوهميين وحشود المتفرجين والقتلة والمقتولين على حد سواء..
إذا كان الهدف الأمريكي من الضربة العسكرية المتوقعة يتخلص بتدمير الأسلحة الكيماوية التي يمتلكها النظام، والتي تمثل خطراً على دول الجوار والإقليم وخاصة «اسرائيل»، فقد استطاعت روسيا أن تقدم مبادرة كفيلة بتحقيق هذا الهدف دون اللجوء إلى تنفيذ الضربة العسكرية التي تخطط لها أمريكا وبعض حلفائها، مما أدى إلى تراجع سريع في وتيرة التهديدـ وتغيرت التصريحات باتجاه الحلول الدبلوماسية.
المبادرة الروسية التي تمثل في حقيقتها الجوهرية صفقة مؤكدة بين الأمريكان والروس تقوم على إقدام النظام السوري بتسليم أسلحته الكيماوية لهيئة دولية يتم تشكيلها من خبراء ومختصين خلال فترة محددة، وليس هذا فحسب وإنما أن تتعهد سوريا بعدم إنتاجها مجدداً، مما يقتضي وضع هذه المصانع والأدوات تحت الرقابة الدولية من أجل التفكيك والمتابعة للقدرات السورية، وهذا يحتم سلب سوريا من القدرة والإمكانات العلمية والمادية على إنتاج هذا النوع من الأسلحة الخطيرة، وسوف يقود ذلك إلى وضع اليد على المعامل والمختبرات والأبحاث والأوراق، وكذلك الحصول على قائمة بأسماء العلماء والباحثين والخبراء، كما حصل سابقاً مع العراق، ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل سوف يتعدى ذلك إلى تجريد النظام من كل أنواع أسلحة التدمير الشامل الأخرى إن وجدت وخاصة البيولوجية التي تراقبها أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية والغربية، وسوف يتبع ذلك بشكل حتمي أيضاً الوصول إلى الصواريخ البعيدة المدى التي تستطيع حمل هذه الرؤوس وغيرها إلى أماكن بعيدة تهدد جيران سوريا.
في ظاهر الأمر يحلو لبادىء الرأي أن يعبر عن فرحه وأساريره لنجاة النظام من ضربة أميركية صاعقة، ولكن الحقيقة تقول أن كل النتائج التي تريدها أمريكا و»اسرائيل» من توجيه الضربة قد تحققت قبل توجيه الضربة وبمجرد التهديد بها، فجل ما تريده «اسرائيل» يتخلص بقلع أنياب الأفعى، لتصبح لعبة شكلية غير سامّة وغير ضارة ولا تستطيع إلحاق الأذى بسيدها، ولكنا قادرة على تخويف الضعفاء والبسطاء.
يريد بشار الأسد الحفاظ على مقعد الرئاسة وعدم انهيار النظام بأي ثمن ولو كان باهظاً جداً، عبر تحويل سوريا إلى أفعى مخلعة الأنياب، ولكن في الوقت نفسه سوف يعطى القدرة على القيام بالدور الأمني المطلوب لحفظ الحدود ولجم المتطرفين والحيلولة دون وصول الإسلاميين إلى الحكم، والإبقاء على جذوة الصراع الطائفي والمذهبي مشتعلة في المنطقة، التي تكفل دوام الضعف وتحول دون الإصلاح والنهوض، وتحول دون امتلاك أدوات القوة في المدى القريب والمتوسط.
الخاسر الأكبر من هذه الصفقة هو الشعب السوري والدولة السورية بشكل مؤكد، والخاسر الثاني هو النظام نفسه الذي تحول إلى لعبة بين اللاعبين الكبار، والرابح الأول من هذه الصفقة «اسرائيل»، التي سوف تتخلص من أي تهديد مستقبلي، ومن هاجس انتقال أسلحة التدمير الشامل إلى أيدي (المتطرفين والأصوليين) على حد زعمها، والرابح الثاني هو إيران، التي تريد بقاء نفوذها ونفوذ حزب الله عبر بقاء النظام، بالإضافة إلى ما حققته أمريكا وروسيا من انتصارات معنوية من خلال الإبقاء على خطوط النفوذ والمصالح المرسومة.
الأمر الأكثر أهمية في كل ما سبق أن نقف على نقاط الضعف الكبيرة التي نتمتع بها نحن العرب، والتي يستثمر بها الأعداء الخارجيون والقوى العالمية والأطراف الإقليمية الطامحة، والتي تتمثل بحقيقتين كبيرتين متوهجتين كالشمس في رابعة النّهار وهما:
حقيقة الضعف الأولى تتمثل بأنظمة الحكم المستبدة المتحالفة مع الفساد التي تستند إلى شرعية القمع والكبت، والأمن المجبول بالدم والرصاص، والتي تنظر إلى الشعب بأنه عدوها الأول، والتي تحول دون النهوض والإصلاح والتقدم، والتي يرتهن بقاؤها بتمزيق شعوبها وإضعافها وإشعال بذور الفتنة بين مكوناتها، والحيلولة دون امتلاك إرادتها وحريتها.
أما حقيقة الضعف الثانية فتتجلى في ضعف القوى السياسية العربية وتفرقها وانقسامها، الذي أدى إلى إحداث انقسام مجتمعي كبير، وحال دون التوافق على قواعد اللعبة السياسية وحال دون الانخراط في مشروع إعادة بناء الإنسان العربي وإعادة بناء الدولة العربية وبناء مؤسساتها وفقاً لرؤية وطنية جامعة، تعلي الشأن الوطني فوق الشؤون والمصالح الحزبية والفئوية، مما يؤدي إلى التفريط بمنجزات الثورة الشعبية، والتفريط بدماء الشهداء وجهود المخلصين.
( الدستور )