أوروبا والمحور الآسيوي الذكي

للمرة الأولى منذ قرون من الزمان، يتحول تركيز الاقتصاد العالمي نحو الشرق. فقد بدأت الولايات المتحدة ''محورها'' في آسيا، وعلاقاتها مع الصين بشكل خاص تبدو باستمرار وكأنها تغازل ''فخ ثوسيديديس'' أو النمط التاريخي الذي يشير إلى أن أي قوة صاعدة لابد أن تصطدم حتماً بالقوة المهيمنة. ولكن في ظل ما يتسم به التعامل بين الولايات المتحدة والصين من حذر وتحفظ فيما يتصل بأهم الشؤون العالمية، فأين يأتي دور أوروبا على وجه التحديد؟
إن الاتحاد الأوروبي يمر بمنعطف تاريخي حاسم يفرض عليها تكوين محور خاص بها باتجاه الشرق ــ استراتيجية آسيوية متماسكة وحاسمة تبنى على مواطن القوة التي تتمتع بها أوروبا. ورغم أن مجموع سكان الاتحاد الأوروبي يعادل 20 في المائة فقط من مجموع سكان الصين والهند، وأن حضورها العسكري في آسيا ضئيل للغاية، فإن اقتصاده الذي يبلغ حجمه 12.6 تريليون يورو (16.8 تريليون دولار أمريكي) يُعَد الأضخم على مستوى العالم.
ولم تغب هذه الحقيقة عن الحكومات في آسيا، والتي تعتمد بشكل كبير على النمو الاقتصادي لتلبية الطلب المتزايد من قِبَل شعوبها الشابة النامية على فرص العمل والازدهار. وحالياً تُعَد آسيا الشريك التجاري الرئيسي للاتحاد الأوروبي، فتتفوق على أمريكا الشمالية وتشكل ثلث مجموع تجارتها. فالتجارة مع الصين وحدها تتجاوز في حجمها مليار يورو يوميا، وهي المرتبة الثانية بعد التجارة مع الولايات المتحدة فقط.
وعلاوة على ذلك فإن الاتحاد الأوروبي لديه رصيد لا يخلو من مفارقة من الأصول تحت تصرفه : فهو ليس قوة باسيفيكية ولا يحمل عبء القوة العظمى في آسيا. وبعيداً عن كونه نقطة ضعف، فإن هذا هو على وجه التحديد مصدر القوة الكامن في الاتحاد الأوروبي، فهو يوفر لها درجة من خفة الحركة الدبلوماسية لا تستطيع أمريكا الثقيلة الوزن أن تدركها.
ويتعين على الاتحاد الأوروبي أن ينخرط مع آسيا في ثلاث جبهات على الأقل تعود على الطرفين بمنافع متبادلة، حيث تشكل التجارة الجبهة الأكثر أهمية. فاتفاقيات تحرير التجارة التي عقدها الاتحاد الأوروبي مع اقتصادات آسيا النشطة النابضة بالحيوية (بما في ذلك كوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا والهند وفيتنام واليابان وتايلاند) أكثر طموحاً في نطاقها من الاتفاقيات الثنائية السابقة. ومع تبلور ترتيبات التجارة الحرة الإقليمية الواسعة النطاق، يواصل الاتحاد الأوروبي الإشارة إلى التزامه الواضح بالتجارة الحرة من خلال اتفاقيات ثنائية متطورة.
وهنا تكمن مفارقة آسيا المحددة : فلم يكن المستوى المرتفع من التكامل الاقتصادي كافياً لنشوء المؤسسات الإقليمية القادرة على دعم الاستقرار المطلوب لتحقيق الازدهار المستدام. وبدلاً من هذا فإن آسيا لا تزال تحمل ندوباً عميقة بفعل منازعات غير محسومة، ونوبات دورية من النعرة القومية، والحدود المتنازع عليها، وكل هذا يميل إلى التضخم بفعل التخوف الناجم عن الصعود غير المتسق لبعض قواها.
بيد أن إنشاء البنية الهندسية مهمة شاقة استغرقت من أوروبا عقوداً من الزمان ولا تزال جارية حتى الآن. فقد كشفت المآزق والأزمات المتعاقبة عن العيوب في التصميم المؤسسي للاتحاد الأوروبي، وكل ترقية (مضنية) جعلت المشروع الأوروبي على ما هو عليه من قوة الآن. ومن دون تلميح إلى الأبوية، ومع إدراكه لوضعه كعمل قيد التطوير والإنجاز، فيتعين على الاتحاد الأوروبي أن يزيد من انخراطه في الهياكل القائمة في آسيا وأن يعرض معارفه كلما أمكن ــ على سبيل المثال، في تحول منظمة الآسيان (اتحاد دول جنوب شرق آسيا) نحو تصميم ثلاثي الركائز (السياسية العسكرية، والاقتصادية، والثقافية الاجتماعية) بحلول عام 2015.
وعلى الجبهة العالمية، قد يدرك الاتحاد الأوروبي والصين أنهما شريكان طبيعيان فيما يتصل بقضايا رئيسية. فالصين تواجه ضغوطاً متزايدة (وخاصة من قِبَل الولايات المتحدة) لحملها على الاضطلاع بدور سياسي عالمي يتناسب مع ثِقَلِها الاقتصادي. وهنا تستطيع الصين أن تجد في أوروبا شريكاً ممتازا، سواء في صيغة مجموعة الثلاث مع الولايات المتحدة أو في هيئة تعاون ثنائي مركز.
ولنتأمل الحال في الشرق الأوسط. قد تجد الصين وأوروبا قضية مشتركة في الخواء القائم بعد أن أضعفت ثورة الطاقة المحلية في أمريكا التزامها بالمنطقة. فمع تنامي اعتماد الصين على موارد الطاقة القادمة من الشرق الأوسط ــ 90 في المائة من صادرات المنطقة من النفط سوف تذهب إلى آسيا بحلول عام 2035 ــ تصبح الحاجة إلى تعميق المشاركة مع الدول المنتجة للطاقة أكثر إلحاحا. ومن الممكن أن تعمل أوروبا، الجارة المخضرمة للشرق الأوسط، كشريك استراتيجي للصين في تحقيق هذا المسعى.
والآن أصبحت اليابان عملاقاً آسيوياً آخر يستعيد الثقة، بعد برنامج التحفيز النشط الذي أطلقه رئيس الوزراء شينزو آبي. فمع الخطوات غير المسبوقة التي تتخذها اليابان نحو تحرير التجارة في إطار مفاوضات الشراكة عبر الباسيفيكي مع الولايات المتحدة واقتصادات أخرى في آسيا والأمريكتين، وفي تعزيزها لمشاركتها الإقليمية، يتعين على أوروبا أن تحافظ على علاقاتها القوية مع ثالث أكبر اقتصاد وطني في العالم. ومن المتوقع أن تعمل الاتفاقية التجارية الثنائية التي يجري تصميمها الآن على تعزيز الصادرات في كلا الاتجاهين بنسبة قد تصل إلى الثلث.
في أي استراتيجية شاملة للمشاركة مع آسيا، سوف تكون قوة الاتحاد الأوروبي على قدر القوة التي تتمتع بها بلدانه. ورغم أن المشاركات الثنائية مع القوى الصاعدة في آسيا قد تكون مغرية، وفي حين تفضل آسيا غالباً الاتفاقات الثنائية، فإن إعادة توطين السياسات الخارجية التي تنتهجها بلدان الاتحاد الأوروبي سوف تكون آلية هدّامة. فالأمر يتطلب حبلاً ثخيناً مجدولاً بقوة من أجل الإبقاء على رسوخ أوروبا مع توجهها نحو الشرق، في حين لن تتحمل الجدائل المنفصلة سوى درجة محدودة من الشد والإجهاد في السنوات العصيبة المقبلة.
( الاقتصادية السعودية )