بانتظار ثورة المشاهدين العرب

من الجوْر وضع الفضائيات العربية جميعاً في سلّة واحدة، أو تصنيفها في خانات قسرية، لكنّ وفرة منها يواصل انهماكه في رسم صورة بهيجة مُتخيّلة للواقع. يعيش العرب -ضمن هذه الصورة- أهنـأ أيامهم، وتغمر الأضواء البهيجة لياليهم الحافلة بالأنس، ويخالجهم ارتياح عميق جراء الواقع الذي يكتنفهم.
هو انطباع تشكِّله طائفة من القنوات المتزاحمة في الفضاء العربي عبر تصوير حياة منبسطة تنتعش فيها مؤشِّرات الرفاه وتتلاحق فيها الإنجازات بفضل توجيهات القيادة الرشيدة. كم هو جميل ذلك العالم العربي الذي يتعطّل فيه إدراك الانقلابات ويغيب فيه الوعي بالمجازر، فلا تكدِّره مشاهد الفتك الجماعي بالبشر الموزّعين في الأرجاء، حتى أنّ نشراته الإخبارية تأتي مُفعَمة بالبشائر والابتسامات الواثقة بسلامة الوُجهة.
يُعين الإغراق في الترفيه وإشاعة البهجة على الشاشات، على فرار المجتمعات العربية من واقعها كلّ ليلة، فتفعل جرعات المشاهدة فعلها التخديري الذي يحجب الإحساس بحقائق وتفاصيل مؤلمة كلّ نهار. إنها وجبات مخصّصة للنشوة وتصريف الحنق، فتساعد الشعوب على التملّص من مشاعر الألم، لتحافظ الجماهير على الانضباط في المسارات المرسومة لها.
لا يَجدر تناسي مقصّ الرقيب السُّلطويّ في نموذجه التقليديّ، وكيف كان يتحاشى أساساً تَبرعُم مشاعر التذمّر التي تولِّد نوْبات السّخط والغضب فتشحن إرادة التغيير. لقد أُعيد إنتاج التقليد ذاته في زمن "تحرير" البثّ من الرقيب التقليدي لينفلت عبر الفضاء، فتطوّرت صناعة إشاعة الارتياح، حاملةً المشاهدين إلى عوالم افتراضيّة صاخبة من الأضواء والألوان والمعزوفات، تشي بالبهجة الغامرة، وتبعث على التشبّث بالواقع الذي يُخيّل أنه يستدعي كلّ هذه الاحتفاليّات المتواصلة والابتسامات العريضة التي نهضت عبرها صناعات تضخّمت معها مراكز النفوذ.
ليس المجال للمقارنة بين الصورة البهيجة المُتخيّلة وما يمكن إبصاره ومعايشته في تفاصيل الواقع العربيّ، بل لإثارة التساؤل عن تورّط مسلك كهذا في التعمية على ذلك الواقع ومنح تقديرات مضلِّلة بشأنه. بهذا يمكن الافتراض أنّ وفرة من المحطّات العربيّة هي اليوم المعمل الأمثل لترسيخ وَعي زائف، منفصم العرى عن الواقع، بل قد تدفع إلى تراكم اهتمامات وتصوّرات لا مصلحة للمشاهدين فيها البتّة.
إخضاع المشاهدين العرب
خرجت البيئة الإعلاميّة العربيّة من قمقمها، عبر عقدين من الزمن، فاستحالت مارداً ضخماً يطلّ صباح مساء على المجتمعات الغارقة في إحباطاتها.
لقد أُخضِع المشاهدون العرب للسيول المتدفِّقة على مدار الساعة، دون أن يُستأذَنوا في الوجبات المقرّرة بمعزل عنهم. فهي الاختيارات التي تتذرّع بالمشاهدين القابعين في منازلهم، وتتمسّح بأذواقهم في مسعاها لتقديم مضامين لا تخضع للمراجعة أو المساءلة من أولئك الذين يُراد لهم أن يستهلكوها ويهضموها بلا نَقْدٍ أو تردّد.
ورغم كلّ ما طرأ من تطوّرات، وما صاحبها من مقولات الانفتاح والتعددية ظلّت روح المشاركة غائبة عن معظم المشهد الإعلاميّ العربيّ، حتى مع الاستثناءات المهمّة التي لا يصحّ التنكّر لها. فالانتقال بالفضاء التلفزيّ العربيّ من أحاديّة الاحتكار إلى وفرة القنوات لم يكفل التعافي من معضلة التمركز حول منابع البثّ، التي تُغفِل حقوق المشاركة التي يُفترَض أن يحوزها المشاهدون. ما زالت القوالب والمضامين تُجَهَّز غالباً بمعزل عن هؤلاء "الشركاء" المتأصِّلين في عملية التواصل التلفزيّ.
وبقيت رغبات موجِّهي البرامج ومموِّليها متقِّدمة بمراحل على اختيارات من يُراد لهم أن يستهلكوها. فالبثّ "يستهدف" الجمهور وكأنه منزوع الإرادة، أو أنّه مجرّد مستهلك يهضم ما يقتحم عليه حياتَه اليوميّة بلا نقاش.
إنّه أوان الاستفاقة المتأخِّرة، بعد الانغماس في نشوة الانعتاق من القوالب والمضامين الإعلاميّة التقليدية التي ظلّت تتسيّد المشهد العربي حتى خواتيم القرن العشرين. لقد ساعد الانبهار بصنوف الضخّ الآتي عبر الفضاء على تعليق المساءلة النقديّة الجادّة والمعمّقة بشأن مسؤوليّات الإعلام والتزاماته.
حقّ التصرّف في مواجهة الضخّ
بعد انفلات الجمهور العربي من قيود الإعلام التقليدي الذي أدارته أنظمة صادرت حقّ الاختيار وحجبت فرص المشاركة أُخضعت فئات عريضة من الجمهور ذاته في المرحلة الراهنة للاختيارات الفوقيّة لرأس المال الإعلاميّ المتشابك مع مراكز النفوذ والسُّلطة بتواطؤات غير مرئية.
وقد وجد الإعلام السلطوي فرصته في توزيع الأدوار بقدر من التذاكي، فمورست ازدواجيّة صارخة في الالتزام بالمحدِّدات والضوابط المتعلقة بأخلاقيّات البثّ التلفزيّ وأعرافه في المنطقة. يمكن ملاحظة ذلك في سلوك القنوات الرسميّة التي تلتزم بالطقوس المحافِظة في التناول السياسي والاجتماعي، ونظيرتها شبه الرسمية المنفلتة من تلك الطقوس بذريعة أنّها محسوبة على "القطاع الخاص" وتعمل من الخارج، رغم أنّ منابع تمويلها وإعلاناتها تعود إلى نُظُم تدير تلك القنوات الرسميّة "المحافظة" من الداخل. هي منظومة الاستبداد إذ تطلّ برأسها من نافذة الحرية والانفتاح. ويمكن الافتراض أنّ هذه الازدواجيّة أتاحت لمتنفذِّي السُّلطة والمال والإعلام أنفسهم مجالاً للتفلّت من الضوابط التي وضعتها السُّلطة ذاتها، مع التحرّر من ضغوط المساءلة والمحاسبة.
هكذا ظلت معظم تدفّقات الصناعة الإعلامية العربية تمضي بمنأى عن مشاركة الجمهور في تقويم المضامين وتنميتها أو إصلاحها، بعد كل ما تحقّق من تطوّرات، وهو ما يؤكد أهمية الاستدراك وضرورة التوجّه إلى تفعيل "المشاركة الإعلامية".
المشاركة الإعلامية وانعتاق الجمهور
لم يتنبّه المشاهدون العرب حتى الآن إلى مسؤولياتهم في عملية الإصلاح الإعلاميّ. وقد بات عليهم اليوم أن يشقّوا طريقهم، بأيديهم وبأظفارهم، لأنّ الاختلال الكبير في واقعهم الإعلاميّ لم يجد من يكترث به أو حتى من يلتفتُ إليه من موجِّهي السياسات والأطرافِ المجتمعيّة.
لا خيار للعرب -مشاهدين ومستمعين ومتلقِّين- سوى استجماع قدراتهم الذاتيّة لانتزاع صلاحيّاتهم المشروعة في التقويم والاعتراض والضغط. وبالقعود عن هذا الدوْر لن تتحقّق مشاركة حقيقية للجماهير العربية في تشكيل واقعها إنْ على الصعيد الإعلاميّ أو على المستويات المجتمعيّة والشعبيّة بعامّة.
لعلّ المعضلة الأولى والأهمّ هي توليد الوعي بالحاجة إلى المشاركة الإعلامية الفاعلة، وإدراك أهمية سدّ هذه الثغرة الكبرى في البيئة الإعلاميّة العربيّة، وإبصار المخزون الكامن لدى جماهير الأمّة في الحراك التواصليّ المعبِّر عن رجع الصّدى إزاء التدفّقات.
ليس المشاهدون العرب قاصرين في إمكاناتهم في زمن التشبيك المجتمعي وانتفاض الإرادات، فقدراتهم التفاعليّة الهائلة غير موظّفة بعدُ في هذا المجال. وقد يعدِّل هذا المتغيِّر المُرتقب "قواعد اللّعبة" ضمن معادلة البثّ والتلقِّي في الفضاءات العربيّة التي تستشرف مرحلة جديدة على الأرجح بعد أن تمادت بعض النُّظم في ممارسات القرصنة والتشويش.
إنّ إنضاج المشاركة الإعلامية مسؤوليّةٌ ملقاة على كاهل الشعوب والمجتمعات، وينبغي لها أيضاً أن تشغل المجتمع الأهليّ بتشكيلاته ومبادراته، وتستحثّ المجتمعَ العلميّ بتقديراته وآرائه، وتيقّظ النُّخَب وفئات الصّفوة المنصرفة عن مسؤولياتها. ولا غنى عن نهوض أطر تخصّصية مستقلّة، تتولّى التعبير عن مصالح الجمهور، بمعزل عن السلطات وأذرعها، وباستقلاليّة عن مراكز القوى والنفوذ.
ذلك أنّ الجمهور المتنازل عن حقّ التصرّف إزاء ما يَسمع ويشاهد إنّما يحرِّر عمليّاً شهادة عجزه عن صياغة حاضره وتشكيل مستقبله. ويعني ذلك أيضاً أنّ التكتّل خيار لا غنى للمشاهدين عنه، فلا فرصة لهم في تسجيل حضورهم وضمان تأثيرهم في البيئة الإعلاميّة العربيّة طالما ظلّوا أفراداً متفرِّقين، يتعامل معهم الفاعلون الإعلاميّون بمنطق الكمّ العددي المُبعثر لمعدّلات المشاهَدَة. ثمّ إنّ الإرادة المكبّلة إزاء تجاوزات إعلامية متفاقمة تغْري بمزيد من التمادي في المسالك الخاطئة، وليست قصّة الإقالة الصارخة سوى إشارة تنبيه إلى حالة الانحدار.
الإقالة الصارخة وتساؤلاتها
لم يتحرّج أحدهم في تحرير إقالة صارخة بحقّ مدير قناة فضائية يملكها، عقاباً على آراء غير مرغوبة. هي خطوة عبّرت عن درجة "الاحترام" الذي تكنّه طبقة المال والإعلام العربية لمشاهدي محطّاتها في الحواضر والأرياف والبوادي والمنافي. كما أتاحت هذه الإقالة، فرصة نادرة للتعرّف على منطق أولئك المُستَترين في الأدوار العليا لمراكز الضخّ الإعلامي ومدى قبولهم بتنوّع الرؤى، فإذا كانوا يُلقون بالمديرين من النوافذ بهذا الشكل، فماذا يصنعون مع عامّة الملتحقين بالصنعة إذا ما حادوا عن الخطّ المعتمد أو نطقت ضمائرهم؟
بقدر ما جاءت مواقف زملاء المهنة في عالم عربي فسيح، باهتةً في التضامن مع الشخصية الإعلامية المُستهدَفة والردّ على الخطوة الصارخة بحقِّها اتضح أيضاً أنّ مشاهدي تلك القناة المحترمة وشقيقاتها لم يدركوا قدراتهم على التصرّف إزاء هذا الصّلف الإداري الذي يمجِّد تكميم الأفواه ويردع من يفكِّر في تشغيل عقله وضميره.
كان ذلك التطوّر جديراً بفتح نقاش عام، بشأن حالة الديمقراطية الداخلية في البيئة الإعلامية العربية، وعن موقع الجمهور العربي ومكانته في عملية البثّ والتلقِّي، لكنّ نقاشاً من هذا النوع لم ينهض بعد، رغم تفاقم الأزمة مع قنوات تتجنّد لدعم الانقضاض الفظّ على الديمقراطية واستباحة دماء الجماهير في الميادين.
السلطة الرابعة وسلطة المشاهدين
على من يطيب له امتياز "السلطة الرابعة" أن يتسامح مع حقّ المشاهدين في إنضاج "سلطتهم". وإذا تغنّى الإعلاميّون بمقولات حرية الصحافة التي تنبذ "تكميم الأفواه" يجوز للجمهور التنادي إلى الحقّ في التصرّف إزاء ما يتمّ ضخّه عبر سمعه وبصره.
تتطلّب "سُلطة المشاهدين" آليّاتٍ تعين على المتابعة النقديّة للمضامين الإعلاميّة، وتُنمِّي ثقافة رجْع الصدى في البيئة الإعلاميّة العربيّة، من خلال الوعي بإرادة الجمهور، وتقدير المرغوب والمرفوض بالنسبة إليه، مع احترام الأبعاد القيميّة والالتزامات الأدبيّة والأخلاقيّة في هذا المجال.
لن يتأتّى ذلك دون استثارة الحسّ النقديّ لدى فئات الجمهور إزاء مضامين التدفّق الإعلاميّ، وتعزيز قدرات المشاهدين على التعبير عن آرائهم والإفصاح عن قناعاتهم بشأن ما يخاطبهم عبر الشاشات، وإشعارهم بقدراتهم الذاتيّة على التقويم والمساءلة حتى يدركوا حقّهم ويتحسّسوا إمكاناتهم في الاعتراض على المضامين المتاحة عبر التلقِّي.
يتعذّر النهوض بهذا كلِّه بمعزل عن تنمية الواقع التفاعليّ بين المُرسِل والمستقبِل في البيئة الإعلاميّة العربيّة، فما زال التدفّق يمضي في اتجاهاته الأُحاديّة السائدة.
يقتضي ذلك إرغام مراكز النفوذ الإعلامي في البيئة العربيّة على احترام اختيارات الجمهور. ولأنّ الأمر برمّته لا يتأتّى بالاقتصار على مناشدات رَخْوَة، والإعراب عن أمنيات سرعان ما تتبخّر، وإبداء رغبات غير مسموعة، فإنّ الخيار الواقعي يتمثّل حتماً في تمكين فئات الجمهور العربيّ، من وسائل التفاعل والضغط المشروعة، التي تُعين على إيصال الصوت والمطالب إلى عناوينها الصحيحة.
ما العمل مع شاشات مغموسة بالدم؟
انشغلت الجماهير العربية بالثورة على نُظُم الاستبداد، دون الالتفات إلى مساءلة مراكز النفوذ الإعلامي وتنظيم حراك ضاغط على تجاوزاتها. ما يتّضح اليوم تحت وطأة التجارب المغموسة بالدم أنّ تفكيك منظومة الاستبداد يبقى مطلباً حالماً مع إعفاء مراكز النفوذ الإعلامي من المساءلة.
ثمة وقائع كثيرة وتشابكات مثيرة يجدر الالتفات إليها، مع كلّ هذا المروق من الالتزامات الأخلاقية والانفلات من المعايير الإنسانية والتنكّر لحقوق الشعوب وحريّاتها، عبر قنوات تستعمل البثّ المباشر في تبرير القتل وخدمة تحالفها مع سلطات تسرف في التشويش والقرصنة.
إنّ التسليم باحتدام الصراع على وعي الجماهير العربية يستحثّ التساؤل الحاسم عن جدوى الانتظار ومبرِّرات تعليق أدوات النقد والاعتراض.
فهل يسع المشاهدين العرب حقّاً مواصلةُ الانكفاء في خانة التلقِّي بلا مشاركة في صياغة الواقع الإعلاميّ الذي يغمرهم؟ وهل من مكان تحت الشمس لمن يرتضي الخضوع للمؤثِّرات الواردة مع التدفّقات الكثيفة دون المبادرة إلى التصرّف؟
( الجزيرة 3-10-2013 )