إنتحار الإعلام المصري!

انتحر الإعلام المصري الرسمي الخاص والحزبي حين وقف ينظر بعين واحدة مما يجري في مصر منذ 30 يونيو أو حين تحول إلى نمط واضح من الإعلام الحربي في مواجهة حركة التظاهر والاعتراض والاعتصام، وحين وصل إلى حد التحريض على الإقصاء والقتل ونشر الشائعات وترويجها والإصرار على ترديد الأكاذيب والأخبار والقصص المفبركة، بما بدد كل الآمال التي انعقدت على إصلاحه بعد الثورة، لكي يعود ليلعب دوره المعتاد والمحبب للمصريين باعتباره أحد أدوات القوة الناعمة لمصر الدولة والمجتمع في محيطها العربي والإسلامي.
انفصل الإعلام عن الشعب والمجتمع وفقد كل أسس المهنية والموضوعية، وصار حالة دعائية متحيزة بسفور وفجاجة مستفزة، بما أعاد تذكير الناس بما كان عليه في آخر أيام مبارك إذ كان مجرد بوق لعصابة أو شلة تحكمت في قرارات الدولة المصرية. والجديد أن الإعلام سجل انحيازا بإجماليته دون استثناء تقريبا بما يدفع للقول إن الإعلام يعيش حالة انتحار جماعي وليست حالة انتحار لقطاع منه مع بقاء الجزء الآخر على قيد الحياة لأداء دور التواصل في داخل المجتمع، وهو ما يتطلب إعادة التفكير في نمط إعلام بديل شامل. لم يعد هناك أي صوت في الإعلام الحالي، خارج إطار العزف المنفرد لفكرة أو رؤية ورواية واحدة، فأصبحت المصيبة شاملة للإعلام الرسمي والحزبي والخاص في ظاهرة فريدة وغير مسبوقة إذ عاش الإعلام الخاص والحزبي في زمن مبارك وضعا مختلفا عن الإعلام الرسمي.
كان بقاء الإعلام الخاص والحزبي خارج إطار العزف المفرد الذي مارسه الإعلام الرسمي في زمن مبارك صمام أمان لبقاء الإعلام يلعب دوره في تماسك المجتمع وتواصل خطوط التأثير على عقول المواطنين واستمرار علاقتهم بمؤسسات الدولة بعد سقوط مؤسسات الحكم أو النظام الحاكم وهو ما جرى خلال ثورة يناير إذ سقط الإعلام الرسمي لكن الإعلام الخاص والحزبي ظل مؤثرا بل هو انتعش وحقق طفرة هائلة في تأثيره على المجتمع بما شكل صمام أمان لاستمرار تماسك المجتمع والدولة رغم سقوط النظام بل كان بقاء هذا الإعلام الخاص والحزبي خارج إطار سطوة أجهزة الدولة وقراراتها المباشرة وبطريقة فجة هو ما مكن من الانتقال الهادئ حين تنحى مبارك -بحكم استمرار سيطرة الدولة عبر الإعلام على المجتمع – إذ انصرف الناس من الميادين وكلهم رضا بما حققوا. كان تأثير الإعلام المستقل والخاص مذهلا.
الآن تحدث حالة انتحار جماعي إذ ليس الجاري حالة توحد في لغة الإعلام تمنح القوة والقدرة على التأثير على المجتمع تؤدي إلى تماسكه وقوته في مواجهة الخارج – كما كان الأمر في زمن عبد الناصر- بل حالة توحد وفق لغة كراهية قطاع من المجتمع وحالة انفصال عن ما يجرى على أرض الواقع من أحداث بما يؤدي إلى حالة انفصال لكل الإعلام – جملة واحدة – عن المجتمع تصيبه كله بنفس ما أصاب الإعلام الرسمي خلال الثورة على زمن وحكم مبارك، وهو ما يعني أن الإعلام المصري يفتح الطريق بنفسه لزوال تأثيره كاملا على ما هو قادم من أحداث في البلاد.
الآن صار منشودا وربما جاريا (بادراك ووعى او بعفوية الحركة وضرورات الواقع) إعادة تأسيس الحالة الإعلامية المصرية – مع تطور ونجاح التشكل الجاري – لتعود مرة أخرى لممارسة دورها من جديد، وما جرى ويجري من توحد كل أشكال الإعلام في لغة واحدة منفصلة عن الواقع وعن الحدث الجاري، يجعل القادم في الإعلام أمرا آخر غير ذاك النمط الذي حدث خلال الانتقال من حكم مبارك إلى ثورة يناير ومراحلها الانتقالية.
الآن لابديل عن إعلام متجدد كاملا، وفي ذلك تؤكد الثورة المصرية أنها تسري وفق نمط سريان نهر النيل الهادئ والدائم والذي لا يغير اتجاه حركته أبدا مهما تعرج المسار.
( المصدر : الشرق القطرية )