روسيا تقلص حصة التعليم لدعم ترسانتها العسكرية

في كل عام يُقام في مدينة نيجني تاجيل في منطقة الأورال معرض الأسلحة الروسي، الذي يعتبر النسخة السياسية من اليوم الأخير من كرنفال قبل طقوس الصوم الكبير عند طائفة الكاثوليك: كثير من الأزياء والضوضاء والسيّاح.
وسط الدوي المستمر للتدريب على الرماية في عرض الدبابات، يختلط الملحقون العسكريون من ذوي المظهر الحاد مع الآباء الذين يرتدون زياً مموهاً، والأطفال الصغار وراءهم، ليشهدوا يوماً هدفه الاطلاع على أحدث المعدات العسكرية.
مندوبو المبيعات من المصانع العسكرية للمحافظات النائية في روسيا يتباهون بنظام التوجيه الأحدث لديهم، أو القذيفة الخارقة للدروع في الأجنحة، التي تمت تهيئتها لوفود من بينها دول الخليج العربية الذين يرتدون الملابس الأنيقة، عسى أن ينجذب أحدهم إلى بضاعتهم.
هنالك طابع شرق أوسطي واضح يسود البازار السنوي. الدبابة المدمرة الجديدة BMPT -72، تم دهنها بلون التان الصحراوي، في حين أن الرسومات المبهرة التي عرضت في الخلفية، تُظهر أنها تندفع فوق ساحة معركة من أشجار النخيل والكثبان الرملية. رئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف، أثناء زيارته المعرض، سأل قائداً مسؤولاً عن نموذج العرض: ''هل أنت في طريقك الى الكويت؟
ركز صانعو الأسلحة في روسيا بشكل كبير على المشترين من الشرق الأوسط، حتى إنهم أطلقوا على أحدث صاروخ كروز اسم الإسكندر، وهو الاسم العربي للقيصر ألكساندر.
ولكن تجار الأسلحة الروسية يمنحون الأولوية الآن لعميل جديد: الدولة الروسية نفسها. ارتفع الإنفاق على الدفاع في روسيا في العام الماضي 25 في المائة، وهذا العام من المتوقع أن يتجاوز الإنفاق في موسكو معدله في المملكة المتحدة واليابان، وفقاً لتحليل أجرته .IHS
من شأن ذلك أن يجعل روسيا ثالث أكبر مشترٍ للأسلحة في العالم، منفقة بذلك مبلغ 68.8 مليار دولار في عام 2013، تلي بذلك الصين التي تنفق مبلغ 131.7 مليار دولار، والولايات المتحدة، التي تنفق على الدفاع 637.8 مليار دولار، وهو ما يجعلها تنفق أكثر من البلدان العشرة التالية مجتمعة.
وفي إشارة إلى عزمه على إعادة بناء وجود روسيا كقوة دبلوماسية وعسكرية ذات مصداقية، أعلن الرئيس فلاديمير بوتين العام الماضي أن فورة الإنفاق على مدى عقد كامل على الأسلحة، من المتوقع أن تكلف 755 مليار دولار.
في حين ركزت الحكومات الغربية على صادرات الأسلحة الروسية إلى سورية، إلا أن حجم السوق المحلية المتراكمة سيضاعف المخاوف بشأن الكيفية التي تعتزم بها موسكو الاستفادة من قوتها العسكرية.
تهدف خطط الإنفاق ليس فقط إلى إحياء الجيش، بل ولإنقاذ هيبة روسيا في أعقاب عقدين من الزمن، عانت فيهما قواتها المسلحة الإذلال مرة بعد أخرى، بما في ذلك خسارة الحرب الشيشانية الأولى أمام المتمردين من هنا وهناك في عام 1996، والإذلال من كارثة الغواصة كورسك في عام 2000.
مع عدم وجود أي مبالغ نقدية، كانت تدفع للجنود في بعض الأحيان الخيارات الصغيرة المحببة. أصبحت عملية إعادة التسليح، بعد 20 عاماً من ميزانيات الدفاع الراكدة، جزءاً من محاولة جديدة لتحويل الجيش إلى قوة مهنية محترفة مماثلة لأمريكا أو لبريطانيا، وكسر نموذج الجيش المُجند الذي تم تصميمه للمعارك الشاملة مع نابليون أو هتلر.
وعلى النقيض من الدبابات المدمرة المعدة للتصدير، جاء كشْف النقاب في نيجني تاجيل يوم الخميس الماضي من جديد عن دبابة قتالية رئيسية تدعى آرماتا، وهو شأن روسي تماماً. لقد كان الأمر في غاية السرية حيث لم يسمح إلا لميدفيديف فقط بالحضور.
تعتبر الآرماتا دبابة من جيل جديد من الأسلحة الروسية مصممة ليس للتصدير فحسب، بل للحفاظ على مكانة موسكو العالمية. وتشمل هذه الأنظمة الطائرة النفاثة المقاتلة من طراز سوخوي سو 35، وإصداراً أحدث وهو T-50.
يعتقد بعض الخبراء أن نظام S-350 المضاد للطائرات يتفوق على صاروخ باتريوت الأمريكي، وأن المروحيات من طراز Mi-28 الهجومية تهدف إلى منافسة الأمريكية من طراز أباتشي.
يزعم المحافظون أن الاستثمار في صناعة السلاح الروسية أمر معقول من الناحية الاقتصادية. يقول فلاديمير ياكونين، رئيس شركة السكك الحديدية الروسية الحكومية وهو محافظ مقرّب من بوتين: ''لطالما كان المجمع الصناعي العسكري محركاً لتقدمنا التكنولوجي''.
لم يُترَك شيء بمأمن من حملة التحديث. صدر مرسوم في تموز (يوليو) بأن ثكنات الجيش يجب أن تحتوي على مقصورات استحمام منفصلة، وأن تشتمل القواعد على مقاصف البوفيه لتحل محل الدعائم الأساسية لنظام الجندي الروسي الغذائي: الشعير والعصيدة ولحم الخنزير المقدد. وفي آب (أغسطس) أصدر سيرجي شويجو، وزير الدفاع، مرسوماً يقضي بأن إصدار نسخة البوب من النشيد الوطني، ينبغي أن يحل محل إصدار نسخة أوركسترا النحاس، وأن يتم عزفها في ثكنة الجيش ''لخلق مزاج وطني''.
يشعر التقليديون بالذعر من إصلاح آخر: تم إصدار جوارب للجنود لتحل محل لفافات الـportyanki ، أو قطعة من الملابس تلف حول القدم، تلبس تحت أحذية الجنود منذ نحو القرن السادس عشر.
كانت تلك الإصلاحات أرخص في عملية التطبيق المقررة لإصلاح الأسلحة، وفقاً لمسؤولين حكوميين يقولون إن غزو عام 2008 لجورجيا، وإن كان ناجحاً من الناحية العسكرية، أظهر مخاطر الاعتماد على المواد القديمة.
يقول ديمتري روجوزين، نائب رئيس الوزراء لشؤون الصناعات العسكرية: ''إنها تسديد لدين للجيش والأسطول، لأنه منذ 20 عاماً لم يمول أحد أي شيء على الإطلاق. لقد كشفت الحرب في جنوب القوقاز جميع نقاط الضعف لدينا''.
لكن الطوفان من أموال الدولة في قطاع الدفاع كشف أن الصناعة سيئة التجهيز. منذ الآن، وضعت طلبية لشراء 37 طائرة من طراز Su-35s جانباً لمدة عامين، حتى عام 2016، بسبب التأخير في التصميم.
الانفجار المذهل من صاروخ بروتون على منصة الإطلاق في 2 تموز (يوليو)، ما أدى إلى تدمير ثلاثة أقمار صناعية من طراز جلوناس التي طورها الجيش لتحديد المواقع GPS، أثار من جديد الشكوك حول ما إذا كانت روسيا يمكن أن تكرر المآثر الهندسية من الحقبة السوفياتية.
قال روجوزين في مقابلة مع الإذاعة في تموز (يوليو): إن عديدا من النكسات لم تكن حاسمة. وأضاف: ''في وسعنا أن نفجر وجهك على سبيل التمخط في منديل، ونقول إننا خاسرون ولسنا أهلاً للقيام بأي شيء، وأن جيل آبائنا كان عظيماً، وأننا بلا قيمة. هذا هو الموقف الخاطئ. لا ينبغي لنا أن نلف أنفسنا في الكفن ونذهب إلى المقبرة''.
إصلاح الجيش يعني معالجة مشكلة تتلخص فيما يجب القيام به حيال المجمع الصناعي العسكري الروسي المتكتم من شركات تصنيع الأسلحة التابعة للدولة، الذي بقي لعقود في ظل الاتحاد السوفياتي، وحتى بعد ذلك، يتمتع من الناحية العملية بكونه دولة داخل دولة. الشركات الرائدة في صناعة الدفاع، التي تعمل من مصانع سرية ذات تقنية عالية، تبدو منذ فترة طويلة مثل إقطاعيات اعتادت إملاء شروطها على الحكومة.
الكرملين حريص على إصلاح القطاع قبل فتح الباب على مصراعيه لأموال الدولة لمصنعي الأسلحة، التي تعتاش أساساً على الصادرات منذ عقدين من الزمان.
أثار الارتفاع في الطلبيات مناوشات يمكن التنبؤ بها بين الجيش وصناعات الأسلحة الروسية. في عام 2011 حاول صانع دبابات في نيجني تاجيل، وهو مصنع الأورال واجون، رفع أسعار دبابات T- 90، التي تعتبر العمود الفقري للجيش الروسي، من 70 مليون روبل إلى 118 مليون روبل. واتخذ الجنرال ألكسندر بوستنيكوف، قائد القوات البرية الروسية، خطوة غير مسبوقة في النقد العلني للدبابة T- 90 باعتبارها ''التعديل السابع عشر للدبابة السوفيتية ''T- 72 التي أنتجت لأول مرة في عام 1973. وأضاف أنه بالنسبة لمبلغ 118 مليون روبل، ''فسيكون من الأفضل شراء ثلاث دبابات من طراز ليوبارد الألمانية''.
في عام 2011 أُقحمت وزارة الدفاع من خلال أول عملية شراء كبيرة من الأسلحة الأجنبية، من بينها اثنتان من السفن الهجومية البرمائية من فئة ميسترال من فرنسا، بمبلغ 1.7 مليار دولار، التي روج لها وزير الدفاع السابق أناتولي سيرديوكوف، لتأديب الصناعة المحلية وجعلها أكثر قدرة على المنافسة.
منذ ذاك، أعلنت صناعة الدفاع النصر النهائي في حرب الأسعارـ فقد فُصِل سيرديوكوف في عام 2012 بسبب فضيحة فساد. ويشغل الآن الجنرال فياتشيسلاف خاليتوف، وهو من قدامى المحاربين في العمليات القتالية في ترانس دنيستر وأبخازيا والشيشان، منصب نائب المدير العام المسؤول عن بناء الدبابات في مصنع أورال واجون، ومن رأيه أن الشركات المصنعة للدفاع قد فازت، على الأقل حتى الآن.
ويقول: ''الآن كل شيء تمت تسويته. وزارة الدفاع تتحدث الآن أكثر حول الجانب التقني، وليس السعر. هم أكثر اهتماماً الآن حول ما إذا سيتم تنفيذ مواصفاتهم''.
ولكن نهاية حرب الأسعار لم تصرف أجندة إصلاح الكرملين بعيداً عن الطاولة. تصنيف صناعة الدفاع لا يزال لغزا: المؤسسات البالغ عددها 1350 مؤسسة تمثل المجمع العسكري الصناعي، وتضم فقط قطاع الصناعات التحويلية ذات التقنية العالية في روسيا، وتعتبر نواة الاقتصاد التي يدرك الكرملين أنها تجب رعايتها، على الرغم من أن بعض المراقبين يقدرون أن ما يصل إلى ربع الشركات مفلس من الناحية الفنية.
المحاولات السابقة في الإصلاح ذهبت أدراج الرياح. في 2007، كان إصلاح المؤسسات الدفاعية المملوكة للدولة يعني نقلها إلى ولاية شركات قابضة مملوكة للدولة مثل راشان تكنولوجيز، حيث كانت بالكاد تبقى واقفة على قدميها. وتمت خصخصة بعضها جزئياً.
يقول ألكسندر جولتس، المختص العسكري ونائب رئيس تحرير إزدفيني جورنال، Ezhednevny Zhurnal وهي صحيفة إلكترونية: ''كل شركة من الشركات القابضة هي محاكاة ساخرة لصناعة الدفاع السوفياتي، بكل ما فيها من عدم الكفاءة والبيروقراطية، والفساد. أخذوا المال ممن هم أقل منهم كفاءة بصورة أو بأخرى وأعادوا توزيعه على المفلسين''.
الآن، يبدو أن الأمور تتجه أكثر نحو الخصخصة. في الأسبوع الماضي، باعت الدولة حصة 49 في المائة في مجموعة كلاشينكوف، التي تصنع البندقية الهجومية التي تحمل نفس الاسم. ولكن في حين أن الخصخصة تجلب عمليات الاستثمار، إلا أن المساهمين من القطاع الخاص يصعب التأمُّر عليهم مما هي الحال مع أجهزة الدولة. وأصبح هذا واضحاً في كانون الثاني (يناير)، عندما قرر المساهمون من شركة كوريدينا Kordiant، وهي الشركة الخاصة الوحيدة التي تصنع إطارات الطائرات الروسية، وقف الإنتاج غير المربح.
قال روجوزين ساخراً: ''ماذا بعد؟ هل من المفترض أن نجهز كل ما نملك من الطائرات بالزلاجات؟'' ثم قال إن لجنة خاصة من الجيش قامت ''بإعادة الاتفاق عليها'' مع مساهمي Kordiant، التي استأنفت الإنتاج على الفور. وقال في مقابلة مع محطة إذاعة إيكو موسكفي: ''الآن كل شيء على ما يرام''.
لكن الأمر الأكثر إلحاحاً بالنسبة للبعض ليس هو مسألة كيفية إعادة تسليح روسيا، وإنما السبب في ذلك. غالباً ما يبرز بوتين تهديدات غامضة من الخارج في خطاباته العامة، التي يهاجم فيها الغرب ويطالب فيها روسيا بالدفاع عن سيادتها. لكن وفقاً لجولتس، ''كان الاتحاد السوفييتي يحمل على محمل الجد الكبير فكرة هجوم أمريكي، لكن لم يعد أحد في الكرملين يصدق هذا''. وحسب التعليق الساخر على ''تويتر'' من @KermlinRussia بعد خطاب آخر من بوتين أثار فيه المخاوف في 20 أيلول (سبتمبر): ''المصابون بانفصام الشخصية لديهم أصدقاء وهميون. لكن روسيا وحدها لها أعداء وهميون''.
يعتقد كثيرون أن روسيا لا تستطيع أن تتحمل التكاليف العسكرية لدولة عظمى، خصوصاً أنه لا يوجد تهديد حقيقي حتى الآن. من المقرر أن ترتفع نفقات الدفاع الروسية، كنسبة من الناتج الاقتصادي، من 3.2 في المائة في 2013 إلى 3.8 بحلول 2016.
وهذه نسبة أعلى بكثير من النفقات في الأسواق الناشئة الكبيرة الأخرى مثل الهند (2.6 في المائة) وتركيا (2.3 في المائة) والصين (1.9 في المائة)، وفقاً لأبحاث من رنيسانس كابيتال، البنك الاستثماري في موسكو.
وقال معارضون من داخل وخارج الحكومة: إن الزيادات المقترحة في الإنفاق على الدفاع، التي وُضعت السنة الماضية أثناء حملة إعادة انتخاب بوتين، مكلفة فوق الحد وستعمل على تحويل الأموال من مجالات أخرى، مثل الاستثمارات الضرورية للغاية في البنية التحتية والتعليم.
وفقاً لبنك رنيسانس كابيتال، من المتوقع أن تتراجع حصة الصحة من الإنفاق من نحو 4 في المائة في 2013 إلى 2.2 في المائة فقط في 2016. بالمثل، من المتوقع أن يهبط الإنفاق على التعليم إلى 3.9 في المائة في 2016، من 5.1 في المائة في 2013.
يقول ألكسي كودرين، وزير المالية الروسي السابق الذي استقال في 2011، وسط خلاف حول الإنفاق العسكري: ''تماماً في الوقت الذي يبدأ فيه كل بلد آخر تقليص الإنفاق العسكري، تفعل روسيا العكس. ومع ذلك نحن لا نتمتع بالقدرات ولا بالأموال اللازمة لزيادة هذه النفقات''.
لكن روسلان بوكوف، مدير مركز تحليل الاستراتيجيات والتكنولوجيات، وهو مركز لأبحاث الدفاع في موسكو، يرد على النحو التالي: ''العدو الرئيسي لأي جيش هو وزارة المالية''.
( فاينانشال تايمز 9-10-2013 )