الثورة الليبية.. الفوضى أو الديمقراطية

الديمقراطية المستقرة والتي يستظل بها كل أفراد المجتمع لا تكون أبدا الوجه الآخر لضعف السلطة، بل لا بد أن تكون الوجه الآخر لتقنين القوة التي هي حصيلة تفاعلات وتوازنات المجتمع الذي فوض السلطة باحتكار العنف الشرعي في مواجهة أي تهديد للأرواح والأموال والحريات.
في أعقاب الثورات والانتفاضات الكبرى ضد أنظمة سياسية مستبدة، حيث تسقط مؤسسات النظام السابق بما فيها تلك التي كانت تحتكر استخدام العنف، يحدث هذا اللبس وهذا التداخل بين الديمقراطية والفوضى والقوة والضعف.
وهذا ما حدث ويحدث في ليبيا بعد الثورة على نظام القذافي والبدء في بناء مؤسسات السلطة والدولة، فقد تفككت كل الأجهزة الأمنية والعسكرية التي كان القذافي يحكم بواسطتها ويفرض سيطرته على كامل الإقليم، ولم تتمكن الثورة حتى الآن من إحلال أجهزة بديلة تؤدي وظائفها في ظل قيم ومبادئ مختلفة.
لا شك أن كل الثورات والتغيرات الكبرى في بداياتها تجد نفسها في حالة فراغ أمني وانفلات وضعف في السيطرة على العنف، وذلك لأسباب منها:
1- أنه في التغيرات التي تتم عبر صراع مسلح، كما هي الحالة الليبية، يزداد الأفراد جرأة بعد حالة القمع والخوف فيصبحون أكثر ميلا إلى العنف لتحقيق رغباتهم ومطالبهم، لأن ذلك كان هو القانون السائد في حلبة الصراع وفي مواجهة العنف المضاد.
وهذا بالضبط ما حدث في الثورة الليبية، فليس كل من حملوا السلاح وقاتلوا نظام القذافي ثوارا واعين مدركين، ولديهم تصور واضح للنظام البديل الذي يقبلون بقوانينه ومؤسساته وإكراهاته.
فهذا النوع من المقاتلين حملوا السلاح ضد نظام القذافي، لأنهم لم يعد بإمكانهم تحمله، بل إن البعض منهم يفضل "اللا دولة" كردة فعل ضد ما كان قائما من تغول للسلطة واستبداديتها.
ولهذا -وكما يحصل عادة في الحالات المماثلة- فإنهم بعد عودتهم من الصراع، يجدون صعوبة بالغة في قبولهم بالخضوع لنظام وقوانين تقيد سلوكياتهم ورغباتهم ومطالبهم ولا سيما أنهم ظلوا محتفظين بأسلحتهم في ظل سلطة ضعيفة تريد أن تقيد نفسها داخل مسار ديمقراطي.
2- ضعف المؤسسات بسبب تعثرها وبطء تشكيلها على أنقاض المؤسسات السابقة إلى جانب وجود حساسية لدى الأفراد بوجه عام، تجاه هذه المؤسسات، لأنها تتشابه من حيث الوظائف وأحيانا الأسماء مع تلك التي ارتبطت ممارساتها بالنظام السابق.
فالشرطة وأجهزة الأمن والمباحث العامة دائما موضع شك، وتحوم حولها الشبهات حتى في ظل الديمقراطيات العريقة، فما بالك عندما تعمل في ظل ديمقراطية وليدة ضعيفة خرجت من أنقاض نظام دكتاتوري.
إلى جانب هذه الأسباب العامة تميزت الحالة الليبية بخاصيتين ساهمتا في ضعف السلطة والديمقراطية معا.
الأولى تمثلت في تعددية القوى والقيادات التي شاركت في الثورة مع تباعد الشقة في الرؤية السياسية بين معظمها، بينما تبدت الخاصية الثانية في انتشار السلاح على اتساع رقعة المجتمع إلى الحد الذي أصبح فيه البعض تجار سلاح، وهو أمر لم يحدث في ثورات الربيع العربي ويندر وقوعه في تجارب الثورات الأخرى.
ترتب على هذا نتائج لم تكن في مصلحة السلطة ولا الديمقراطية، أولى هذه النتائج التي ترتبت على تعددية القوى والقيادات والرؤى السياسية هي عدم وجود قوة فعلية مركزية مسيطرة كانت تقود الثورة ثم تفرغت لقيادة مرحلة بناء الدولة، كما حصل في معظم الثورات المسلحة التي نجحت في إقامة أنظمة سياسية وإدارة دول عصف بها عنف الثورة.
لقد رفعت الثورة الفرنسية -على سبيل المثال- شعارات الحرية والديمقراطية والمساواة وواجهت أوضاعا من الانفلات وعدم الاستقرار وتهديد الأمن الوطني.
ولكن تركز القوة في آخر المطاف في يد قيادة واحدة أنقذت فرنسا من الأخطار وجعلتها أكبر دولة ديمقراطية مركزية في عصرها، حتى إن الفرنسيين لا يزالون حتى اليوم يرددون نقدهم لمركزية الدولة، فيقولون إنها "دولة يعقوبية", نسبة إلى يعاقبة الثورة الفرنسية الذين شددوا القبضة على أطراف الدولة الفرنسية حتى لا تتمزق باسم الديمقراطية.
ثم كانت حقبة الدولة البونابرتية التي بدت وكأنها انتكاسة للثورة ونكوصا عن قيم الديمقراطية، فقد أطبق نابليون وحرسه الجمهوري على مؤسسات الديمقراطية التي بدت ضعيفة وهشة في مواجهة الصراعات التي انفلتت وأخذت تنذر بتحويل الديمقراطية الضعيفة إلى فوضى عارمة تتهدد الكيان الوطني وتجعل الناس يكفرون بكل القيم والمبادئ التي جاءت بها الثورة في مقابل الأمن والاستقرار حتى لو اقتضى ذلك عودة حكم آل البور بون الملكي.
كانت تلك نقلة نوعية تقوم بها عادة قوة فعالة من داخل الثورة وليس من خارجها لتعطي لقيم ومبادئ الثورة قوة المصداقية حتى لا تتحول هذه القيم والمبادئ إلى مدخل للفوضى والخراب العام.
لقد سمح ذلك تدريجيا بتجذر الديمقراطية في ظل سلطة قوية قننت أفعالها واختصاصاتها مواثيق الإرادة العامة، فكانت الديمقراطية هي الوجه الآخر والأجمل لقوة السلطة المنتخبة وليست الوجه الآخر لضعف السلطة وعجزها.
مثل هذه النقلة وقعت في كل الثورات، سواء التي قامت من أجل الأخوة والعدالة والمساواة، أو تلك التي قامت من أجل تأسيس دولة البروليتارية، لأن هناك عادة لحظة تاريخية تقف فيها الثورات عند مفترق طرق بعد زوال نشوة النصر وتنفتح أمامها بوابات بعضها يؤدي إلى تحقيق ما قامت من أجله، وبعضها الآخر يؤدي إلى الفوضى والخراب إلى الحد الذي تصبح فيه العودة إلى وضع ما قبل الثورة حلما صعب المنال.
في تلك اللحظة خاصة يصبح خروج قوة فعالة من رحم الثورة هو الحل للخروج من ذلك المأزق.
لا شك أن الثورة الليبية هي الآن على هذا المفترق، فبعد مرور ثلاث سنوات وإقامة بعض المؤسسات الديمقراطية مثل المؤتمر الوطني العام والمجالس المحلية المنتخبة في بعض المدن، تجد الثورة الليبية نفسها الآن أمام بوابتي الديمقراطية والفوضى دون وجود قوة قادرة وحدها على الاختيار بين البوابتين وتوجيه دفة ليبيا نحوها.
ويرجع ذلك إلى تعددية القوى المشاركة في الثورة وعدم تقارب وجهات نظرها إلى جانب انتشار السلاح، وبالتالي فأن أيا من هذه القوى تستطيع أن تكون مصدرا للفوضى ولكنها لا تستطيع وحدها أن تسيطر وتحفظ النظام وتمنح مصداقية القوة للسلطة الديمقراطية.
من هنا فإن لم تلتق وتجتمع القوى الفاعلة على خيار المسار الديمقراطي، فإن الفوضى ستكون هي الاحتمال الآخر والوحيد.
إن الاستمرار في الخيار الديمقراطي يعني أن تقوم هذه القوى بتفعيل مؤسسات السلطة، وذلك بتهيئة الظروف وإزالة العوائق لإقامة بنيات القوة الشرعية المتمثلة في الجيش والأمن والقضاء، حينئذ فقط تصبح الديمقراطية هي الوجه الآخر لقوة السلطة وليس لضعفها.
أما الخاصية الثانية التي ساهمت في إضعاف الديمقراطية والسلطة، وهي انتشار السلاح، فقد نتج عن ذلك أن أصبحت جماعات صغيرة العدد تمتلك أنواعا من الأسلحة تجعل منها قوة في مواجهة الدولة والمجتمع رغم أنها أقلية عدديا.
من المعروف أن الأقلية السياسية دائما صوتها عال مستفيدة من أجواء الديمقراطية، ولكن عندما تكون السلطة الديمقراطية ضعيفة فإن هذه الأقليات المسلحة تنزع نحو العنف، لأن الأسلوب الديمقراطي لا يعطيها الفرصة لتحقيق مطالبها التي لا تنال رضى الأغلبية.
ولذا فإن الديمقراطية ينبغي أن تكون قوية لكي لا تسمح لهذه الجماعات المسلحة أن تتسلط على بقية فئات المجتمع متجاوزة مبادئ وآليات الديمقراطية التي ارتضتها غالبية أفراد المجتمع.
أما إذا كانت السلطة الديمقراطية ضعيفة، فإنها في هذه الحالة توفر أفضل الأوضاع لخروج كل من يشاء على الشرعية والقانون.
وبالتالي فإن العامة وهم الأغلبية يتخذون كردة فعل، موقفا معاديا للديمقراطية ويعدونها الوجه الآخر للفوضى وعدم الاستقرار، ويتطلعون إلى الديكتاتورية لأنها تصبح بالنسبة لهم بمثابة الوجه الآخر لمعنى النظام والاستقرار.
غير أن الحالة الليبية بالنظر إلى خصوصياتها التي ذكرناها لا تسمح بظهور قوة يمكن أن تقوم بدور يعاقبة الثورة الفرنسية أو بلاشفة الثورة الروسية، ولا يمكن أن يولد من رحمها لا نابليون بونابرت ولا جوزيف ستالين.
إن الاحتمال الأفضل والوحيد كبديل عن الفوضى والخراب هو إجماع القوى الفاعلة على تجذير المسار الديمقراطي وإعطاء السلطة القوة الكافية لمواجهة الخارجين على القانون والمعادين للديمقراطية.
( الجزيرة 15-10-2013 )