البوسطة والوجع الحديدي
المدينة نيوز قبل خمسين قرناً من الحزن، أي ما يقارب عقد ونصف من حساباتنا، سلخ العدو جسدي نصفين، نصف حمل القضية في زوايا السجون، والنصف الثاني راح يبحث … " عبثا" ... عن نصفه الآخر.
كنتُ حينها برعماً في أدراج المدرسة، وتسير بنا الايام بطيئة سريعة، تحمل في طياتها زخات من المواجع والأنين، وما هي إلا بضع سنين، ألحق نصفي الآخر "شقيقي سامي" إلى رحم المعاناة، وبعد عناء شديد في مراوغة إدارة السجون، سمحوا لي بزيارة أخي سامي المحكوم بالسجن ١٩ عاماً، وأخيراً سلتحم النصفان، مع الساعة السادسة من صباح يوم بارد، لملمت أشيائي وخرجت مكبلاً من سجن " مجدو" حيث أنا إلى سجن "هشارون" حيث شقيقي.
"نحشون" وهو جهاز امني اسرائيلي، مهمته نقل الأسرى من مقصلة إلى مقصلة، إستلمنا هذا الجهاز من صقيع زنزانة الإنتظار وسار بنا، ونحن جالسين على مقاعد الحديد وفي أيدينا وأرجلنا أساور الحديد، وحولنا حراس منتشرون قلوبهم حديد، يبدو أنه يوم الحديد العالمي، علماً بأن جهاز "النحشون" من أسوأ الأجهزة قذارة وعنف وقساوة.
كانت البوسطة "وهو إسم يطلق على الحافلة التي نركبها أثناء التنقل بين السجون" مكتظة بنماذج وعينات يتفطر له القلب، هذا ذاهبٌ للمحكمة وذاك مثلي لزيارة أسير شقيق، وغيره يحمل أوجاعه لمشفى الرملة "وهو مشفى خاص للأسرى" وما أشد عذاباتهم، حيث لا يزور هذا المشفى إلا من تغذى عليه المرض شهور وسنين.
نتبادل القبلات والاحزان ونمضي
محطتنا الاولى كانت في سجن جلبوع، ودعنا قسم وعانقنا آخر، ومررنا في طريقنا بسجن شطة والجلمة وتلموند وهدريم والدامون، وغيرها الكثير، بإختصار شديد إصطحبنا الألم لأغلب مناطق الوطن المسلوب، هنا الساحل المذبوح وهناك أغوار الكرامة وهذه تلال حيفا تراقب الموج عن كثب، فقدنا وعينا في وجع الجغرافيا، وأرهقنا الحنين إلى الوطن المسلوب، للمرة الاولى يغادر اخي من مخيلتي ويسكنها وجع المكان الذي يمتد من جرحي إلى ما لانهاية، وبين وجع المكان وسطوة الزمان هاجمتنا قسوة السجان، رفضوا أن ندخن سيجارة فالماء والطعام وممارسة الحنين إلى الوطن ممنوعة مع هذا الجهاز الإسرائيلي القذر.
بعد ساعات طويلة وسويعات، وصلتُ محطتي الأخيرة، وبدأ العناق .. فتشت جميع القواميس في كل اللغات بحثا عن حروف تسعفني لوصف العناق الذي أذاب السلاسل فما وجدت، إختلطت دموع الحنين ساعتين فقط، وعاودت بعدها مزاولة الحزن والنقمة في إحدى الزنازين القريبة، في الزنزانة كنت تسلية لمملكة ذباب بأكملها، ووجبة شهية لصقيع السجن.
وفي اليوم التالي، إستلم جهاز النحشون عهدته من إدارة سجن هشارون وعاد بها إلى إدارة سجن مجدو دون جروح ظاهرة للعيان، وهذه الرحلة تمتد لأكثر من عشرة ساعات متنقلين بين جراح هذا الوطن، وجروح الشوق. ( قدس الاخبارية )