الاتفاقية الأمنية بين كابل وواشنطن

كانت زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري الأخيرة لأفغانستان من أهم الزيارات التي قام بها أي مسؤول أميركي خلال الفترة الأخيرة، حيث أعلن رفقة الرئيس الأفغاني حامد كرزاي التوصل إلى توافق البلدين بشأن جل القضايا المتنازع عليها في الاتفاقية الأمنية المزمع توقيعها.
فما هي هذه الاتفاقية؟ وما أهميتها؟ وما مستقبلها؟ وكيف ينظر إليها الشعب الأفغاني؟ أسئلة عديدة تثار حول هذه الاتفاقية الأمنية نناقشها في السطور التالية.
لما وقعت الاتفاقية الإستراتيجية بين أميركا وأفغانستان بكابل يوم 5 مايو/أيار 2012 في سفر خاطف لباراك أوباما إلى أفغانستان، كان من أهم القضايا التي تم تأجيلها في تلك الاتفاقية إقامة القواعد العسكرية في أفغانستان.
وتم الاتفاق على أن يستمر الطرفان في مناقشة القضايا الخلافية، وأن يتم توقيع اتفاقية أمنية شاملة بين الطرفين، وبناء على ذلك استمرت المحادثات التي بدأت في أكتوبر/تشرين الأول 2012، مع تعرضها للشد والجذب والتعثر أحيانا، ويبدو أن الطرفين توصلا الآن إلى التوافق على أغلب القضايا الخلافية بينهما، وسيتم توقيع الاتفاقية قريبا.
وقد تعرضت الحكومة الأفغانية لضغوط متنوعة من الإدارة الأميركية لتوقيع الاتفاقية الأمنية في المدة التي حددتها الاتفاقية الإستراتيجية.
ولتقريب وجهات النظر بين الطرفين، سافر حامد كرزاي إلى أميركا والتقى باراك أوباما في شهر يناير/كانون الثاني الماضي. ولممارسة الضغوط عليه صرح بعض المسؤولين خلال زيارته بأن أميركا ستسحب قواتها كليا من أفغانستان إن لم تستجب الحكومة الأفغانية للمطالبة الأميركية بتوقيع الاتفاقية الأمنية، علما بأن كرزاي كان يكرر باستمرار أن أفغانستان لن توقع الاتفاقية ما لم تحصل على ضمانات قوية تتعلق بالمصالح الوطنية لأفغانستان، مشيرا إلى أن بلاده ليست في عجلة من أمرها لأن الزمن لصالحها، وأميركا هي المستعجلة على توقيع الاتفاقية.
وأثناء لقائه في يونيو/حزيران الماضي مع حامد كرزاي بكابل، صرح رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات الأميركية الجنرال مارتين ديمبسي بأن أميركا تريد أن يتضح إطار عمل القوات الأميركية التي ستبقى في أفغانستان بعد نهاية مهمة قوات الناتو عام 2014 من خلال الاتفاقية الأمنية المزمع توقيعها بين البلدين، وطالب بأن يتم ذلك قبل شهر أكتوبر/تشرين الأول من هذا العام.
وأكد ديمبسي في نفس الوقت أن الانسحاب الكلي للقوات الأميركية من أفغانستان غير مطروح للنقاش أصلا، وقبل أيام صل إلى كابل جون كيري في سفر غير معلن ليعقد جلسة مطولة مع حامد كرزاي حول الاتفاقية الأمنية، وخرج الطرفان متفقين على حل جل القضايا المختلف فيها، لكن السؤال الذي يُطرح هو لماذا كانت المماطلة من قبل حامد كرزاي؟ ولماذا كان كل هذا الإصرار من قبل الأميركيين؟
ماذا وراء الرغبة الأميركية؟
أميركا لها مصالحها الإستراتيجية في المنطقة التي تتطلب بقاءها في أفغانستان، وهذه المصالح متنوعة، فمنها المصالح الاقتصادية ومنها الأمنية، ومنها مصالح تتعلق بقيادتها للعالم، لكن مصالحها المتعلقة مباشرة باجتياحها لأفغانستان عام 2001 تتطلب بقاءها في أفغانستان.
فقد تدخلت في أفغانستان وتحملت كل تلك النفقات والأموال التي أنفقتها في أفغانستان، وتحملت كل تلك الخسائر في الأرواح والعتاد خلال العقد المنصرم، لأنها ظنت وما زالت أن أمنها القومي كان مهددا من مجموعات متطرفة موجودة في أفغانستان، حسب زعمها.
وعليه فإن مغادرتها لأفغانستان كليا تعني وفق هذا المنطق أنها ستكون قد أهدرت كل تلك الأموال، وتكون قد ضيعت كل تلك التضحيات التي قدمها جنودها في سبيل أمنها القومي، ومن هنا تريد أن يكون لها وجود دائم في أفغانستان، ولا تريد أن تغادرها إلا بعد أن تطمئن على أن أمنها القومي غير مهدد منها.
وبقاء القوات الأميركية في أفغانستان -بعد 2014 الذي تنتهي فيه مهمة قوات الناتو هناك- منوط بتوقيع الاتفاقية الأمنية التي تضغط واشنطن على الحكومة الأفغانية من أجل التوقيع عليها.
ماذا تريد الحكومة الأفغانية؟
يتظاهر حامد كرزاي أمام الرأي العام الأفغاني بأنه قضى الفترة الماضية إلى جانب الفريق الأفغاني المفاوض في الدفاع عن المصالح الوطنية، وقد تحدث خلال الأيام القليلة الماضية أكثر من مرة عن صعوبة المفاوضات، وعن الخلافات الشديدة بين الطرفين الأميركي والأفغاني في الاتفاقية الأمنية حول القضايا التالية:
1- الاعتداء على أحد طرفيْ الاتفاقية: تقول الحكومة الأفغانية إن عدم وجود تعريف محدد للاعتداء الأجنبي على أحد طرفيْ الاتفاقية كان مثار إشكال خلال السنة التي مضت على توقيع الاتفاقية الإستراتيجية بين أميركا وأفغانستان.
فقد كانت أفغانستان تتعرض للقصف المدفعي المستمر من قبل القوات الباكستانية خلال السنة الماضية، وحاولت القوات الباكستانية التقدم مسافات طويلة داخل الأراضي الأفغانية في المناطق الحدودية، كما تتعرض أفغانستان باستمرار لتهديدات مجموعات تقاتل ضد القوات الأفغانية من داخل باكستان، ولم تحرك القوات الأميركية -رغم تعهدها بالدفاع المشترك إذا تعرض أحد طرفيْ الاتفاقية للاعتداء- ساكنا تجاه هذه الحوادث.
ومن هنا، تعتقد الحكومة الأفغانية أنه يجب وضع تعريف معين "للاعتداء على أحد طرفيْ الاتفاقية" الموجود في الاتفاقية الأمنية، وإلا فسيبقى الأمر غير محدد، وإذا بقي كذلك فلن تجني أفغانستان منه فائدة.
2- احترام السيادة الوطنية التامة: ترى الحكومة الأفغانية أن الأميركيين كانوا يصرحون باستمرار باحترامهم للسيادة الوطنية الأفغانية، إلا أنهم كانوا يقومون بما يتعارض مع هذا المبدأ.
فالقوات الأميركية كانت تدير معتقلات وسجونا داخل الأراضي الأفغانية، وكانت تعتقل وتسجن من تريد وتخلي سبيل من تريد، من غير أن يكون للنظام القضائي الأفغاني أو النيابة العامة أي دخل في ذلك، كما أن الأميركيين دخلوا في مفاوضات المصالحة المباشرة مع المعارضة المسلحة من غير تشاور مع الحكومة الأفغانية، وكل ذلك وأمثاله يتناقض مع احترام السيادة الوطنية الأفغانية، ولذلك كان يجب أن تحصل الحكومة الأفغانية على ضمانات بأن القوات الأميركية ستحترم السيادة الوطنية الأفغانية وأنها لن تخرقها.
3- سقوط ضحايا من المدنيين: ترى الحكومة الأفغانية أن سقوط ضحايا من المدنيين نتيجة عمليات مسلحة للقوات الأميركية كان من أهم القضايا العالقة، لأن الحكومة الأفغانية والرئيس الأفغاني نفسه قد احتجا احتجاجا شديدا أكثر من مرة على سقوط ضحايا من المدنيين في عدة حوادث قصف عشوائي على المدنيين من الأميركيين، كما حصلت احتجاجات على تعرض المدنيين لهجمات من قبل تلك القوات، فإذا أرادت القوات الأميركية أن تبقى في أفغانستان فيجب أن تكون لدى الجانب الأفغاني ضمانات تضمن عدم تعرض المدنيين لمثل هذه الحوادث مستقبلا.
4- العمليات العسكرية العشوائية: القوات الأميركية كانت تقوم في فترة وجودها وبقائها في أفغانستان بعمليات ليلية خاطفة من غير تنسيق مع الجهات الأفغانية، وتقوم خلالها بتفتيش المنازل في القرى والنجوع، كما تقوم أحيانا بإهانة النساء والشيوخ، وقد أثارت مثل هذه العمليات حفيظة الكثيرين من الأفغان، وتقول الحكومة الأفغانية إنها حصلت على ضمانات بأنها لن تقوم بمثل هذه العمليات العشوائية بعد توقيع الاتفاقية الأمنية.
الحصانة القضائية
تؤكد أميركا أن لها قواعد دائمة في العديد من المناطق في العالم، وأن جنودها يتمتعون بالحصانة القضائية في جميع تلك القواعد، وأن ذلك من مقتضيات الدستور الأميركي، وأنها مضطرة للتخلي عن توقيع الاتفاقية الأمنية إن لم يقبل الجانب الأفغاني توفير تلك الحصانة لجنودها.
وصرح جون كيري بأن المراد بالحصانة القضائية أن يحاكم الجندي الأميركي الذي يرتكب خطأ أثناء العمليات العسكرية أو ضد أميركي آخر داخل القواعد الأميركية التي تخضع فقط للقانون الأميركي، وليس المراد من الحصانة المذكورة الحصانة المطلقة بألا يحاكم المخطئ أصلا، بل المقصود ألا يحاكم وفق قانون البلد المضيف، وإنما وفق القانون الأميركي.
وكانت "اللوياجيرغا" التي طلب منها حامد كرزاي العام الماضي مناقشة الاتفاقية الإستراتيجية قد نصت في توصياتها على ألا يعطى الجنود الأميركيون الحصانة القضائية في حالة الموافقة على إنشاء القواعد.
لكن الحكومة الأفغانية تريد أن تثير هذه القضية مرة أخرى، وتطرحها على اجتماع "للوياجيرغا" سيطلبه الرئيس الأفغاني خلال الأيام المقبلة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا تريد الحكومة مناقشة هذه القضية مرة أخرى في نفس المجلس الذي أصدر قرارا قبل ذلك بخصوصها؟
يبدو أن الهدف من طرح هذه القضية للنقاش من جديد هو تمرير القضية الأساسية، وهي إقامة القواعد العسكرية الأميركية في أفغانستان، وكان الهدف من طرح القضايا التي أشرنا إليها آنفا في الإعلام خلال الفترة الماضية إيهام الشعب الأفغاني بأن الحكومة الأفغانية لم تدخر وسعا للحفاظ على المصالح الوطنية، وكأن قضية وجود القوات الأجنبية والسماح لها بإقامة القواعد أمر مقضي لا خلاف فيه.
ويبدو أن اجتماع "اللوياجيرغا" القادم سيكون ديكورا محضا مثل نظيره السابق، إذ سيحضره أناس تريد الحكومة حضورهم لإمرار ما تريد إمراره، والمناقشات ستدور حول بعض القضايا الجانبية، وستبقى بعيدة عن جوهر القضية.
موقف الشعب الأفغاني
انقسم الشعب الأفغاني بشأن الاتفاقية الأمنية إلى فريقين، مثل انقسامه حول الاتفاقية الإستراتيجية التي تم توقيعها قبل سنة تقريبا.
1- فريق مؤيد لتوقيع الاتفاقية:
يرى جمع من الناس أن أفغانستان لا تستطيع في الظروف الحالية أن تقوم على قدميها وتدافع عن نفسها، ولا أن توفر ميزانيتها من غير مساندة الدول الغربية، كما أنها لا تستطيع أن تحول دون تدخل الدول الأجنبية وخاصة الدول المجاورة في الشؤون الأفغانية من غير وقوف أميركا بجانبها.
ويعتقد هؤلاء أن أفغانستان تحتاج أن تبقى محط اهتمام الدول الغربية في هذه الفترة من تاريخها، وأن شيئا من هذه المصالح لن يتحقق إلا بالوجود الأميركي في أفغانستان، وإقامة القواعد العسكرية الأميركية فيها، وكل ذلك يتوقف على توقيع الحكومة الأفغانية للاتفاقية الأمنية مع أميركا.
2- فريق معارض لتوقيع الاتفاقية:
ويرى فريق آخر أن الاتفاقيات التي تتضمن إقامة القواعد العسكرية الأميركية في أفغانستان ليست في صالح أفغانستان، لأنها تجلب المشاكل للبلاد داخليا وخارجيا، وعلى مستوى الدول المجاورة والبعيدة.
فوجود القوات الأميركية سيجعل أفغانستان ميدانا لتصفية الحسابات بين أميركا وبين اللاعبين الصغار والكبار على مستوى المنطقة والعالم، كما أن وجود القواعد الأميركية على الأراضي الأفغانية سيكون تهديدا مستمرا لكيان المجتمع الديني والاجتماعي، وسيكون سببا مباشرا لاستمرار الحرب في أفغانستان، لأن وجود القواعد الأجنبية في أفغانستان سيؤلب الشباب عليها ويحثهم على خوض الحرب ضدها باستمرار، وبذلك ستكون تلك القواعد سببا لاستمرار القلاقل والاضطرابات في المجتمع الأفغاني.
ولا شك أن أفغانستان في ظروفها الحالية لا تستطيع أن تقوم على قدميها، وتحتاج إلى مساعدة المجتمع الدولي للخروج من أزماتها الحالية، وتحتاج أن يقف هؤلاء بجانبها في سبيل الوصول إلى الاستقرار واستباب الأمن، وهذا يهم المنطقة والعالم بأسره كما يهم أفغانستان، لأن بقاءها مضطربة سيجلب المشاكل الأمنية للجميع، ولكن وقوف المجتمع الدولي ومساعدته لأفغانستان لا يتطلب بالضرورة إنشاء القواعد الأميركية فيها.
( الجزيرة 1/11/2013 )