وسائل الإعلام وصناعة الوعي الاجتماعي

يرى نقاد الصناعة الإعلامية أن وسائل الإعلام لا تزودنا فقط بالمعلومات والقضايا والأحداث التي تجري من حولنا محليا وإقليميا وعالميا بل تزودنا كذلك بمنظور معين وبإطار محدد لتلقي هذه الأحداث وهذه القضايا وتفسيرها وتحليلها وفهمها. والسياق مهم جدا لأنه يعتبر المرحلة الأخيرة في فهم الحدث وتفسيره، وهذا يعني أن وسائل الإعلام تضع الأحداث والقضايا داخل سياقات وأطر خاصة ومحددة وفق آليات وميكانيزمات وأعراف متفق عليها ضمنيا في قاعات التحرير وفي وكالات الأنباء العالمية وإمبراطوريات الإعلام والاتصال. أما باقي ناقلات الأخبار عبر العالم سواء في جنوبه أو شرقه أو غربه فما هي إلا صناديق بريد توزع في معظم الأحيان ما تنقله وتوزعه كبريات المؤسسات الإعلامية العالمية. لا تحدد لنا وسائل الإعلام ما نشاهده ونقرؤه فقط، بل تحدد لنا كذلك كيف نقرأ الأحداث وكيف نفهمها وفي أي إطار نضعها لنفسرها ونحللها. فالأطر التي تضعها وتحددها وسائل الإعلام هي عبارة عن أنماط ثابتة مستمرة من العمليات المعرفية والسياقات التفسيرية للمعلومات التي تعمل على الانتقاء والتأكيد والاستبعاد والتي يقوم من خلالها صناع الخطاب الإعلامي بالتنظيم النمطي والمنهجي لمخرجات وسائل الإعلام.
أصبحت تأثيرات وسائل الإعلام جلية في جميع مناحي الحياة؛ فمنهم من يرى أن الانتخابات تصنعها وسائل الإعلام خاصة التلفزيون، ومنهم من يؤكد أن الحرب دون تليفزيون لا تعتبر حرباً، والاقتصاد والتسويق دون إعلانات وبدون ترويج عبر وسائل الإعلام لا يعتبر اقتصادا والأحداث الرياضية العالمية والألعاب الأولمبية إذا لم تنقلها وسائل الإعلام ولم ترعاها كبريات الشركات المتعددة الجنسيات في العالم مثل "كوكا كولا" و"بيبسي كولا" و"فوجي فلم" و"سوني" و"بانسونيك" و"أديداس" و"نايكي" وغيرها كثيرون، لا يدري عنها أحد. العمليات الإرهابية كذلك والجرائم والفيضانات والانقلابات العسكرية والكوارث الطبيعية كلها أحداث تتهافت وسائل الإعلام على تغطيتها ومتابعتها أولا بأول. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كيف تتم هذه التغطيات وكيف تتم عملية الانتقاء والإقصاء وما هي الآليات التي تحكم صناعة الأخبار ومخرجات وسائل الإعلام؟، فالعملية ليست بريئة ولا بسيطة كما يتصورها الكثيرون، بل إنها في واقع الأمر عملية منظمة ومتسقة وفق معايير محددة وأيديولوجية واضحة المعالم لا تهدف بالضرورة إلى تقديم الواقع كما هو بل إنها في معظم الأحيان تفبركه وتصنعه وفق أطر معينة ومحددة لتحقيق أغراض وأهداف واضحة المعالم تخدم النظام القائم والقوى الفاعلة في المجتمع.
أصبحت وسائل الاتصال الجماهيري التي تستحوذ على نسبة كبيرة من وقت الفرد في المجتمع الأدوات الحقيقية التي تصنع الوعي الاجتماعي وتبني الواقع، هذه الوسائط أصبحت تفبرك الواقع وفق آليات معينة وأطر محددة لتحقيق أهداف مدروسة مسبقا. فهناك ميكانيزمات و"اتفاقيات" توظفها وسائل الاتصال الجماهيري في عملية التنميط والقولبة للمحافظة على النظام والوضع الراهن وصناعة وعي اجتماعي يتناغم مع أيديولوجية وأهداف القوى السياسية والاقتصادية الفاعلة في المجتمع.
بالنسبة لرجال السياسة تعتبر وسائل الإعلام الوسيط الأساسي والاستراتيجي للوصول إلى الجماهير العريضة للتأثير فيها وتكوين وتشكيل الرأي العام الذي يتبنى آراءهم وأفكارهم ووجهات نظرهم وبذلك برامجهم.. فالسياسي الناجح هو ذلك الذي يحسن التعامل مع وسائل الإعلام والذي يعرف كيف يمرر خطابه السياسي عبر وسائل الإعلام بلباقة وبمهنية عالية. فالعلاقة بين وسائل الإعلام والحياة السياسية تشكل عنصرا هاما من عناصر فهم الرهانات المرتبطة بتطور الديمقراطيات العصرية.. تؤثر وسائل الإعلام في الحكام والمحكومين، فوسائل الإعلام تغير القوانين التقليدية للعبة الديمقراطية، فسمعة السياسي تحددها بدرجة كبيرة الصورة التي يكونها ويصنعها لنفسه من خلال وسائل الإعلام.. هذه الصورة يجب أن تكون متناغمة ومتناسقة مع الصورة المقدمة والصورة التي تدركها الحشود والجماهير. فإدارة الصورة تعتبر ظاهرة رئيسية ومحورية في جعل الحياة السياسية ظاهرة إعلامية، أي تتناولها وتناقشها وسائل الإعلام باهتمام بالغ وبتركيز كبير.
من جهة أخرى نلاحظ أن التغطية الإعلامية لنشاط السياسيين وعملهم اليومي تترك آثارا كبيرة على الجماهير والمتتبعين للفعل السياسي الذين يتابعون نشاط السياسيين ومدى تطابق أقوالهم مع أفعالهم، فحسب والتر ليبمان Walter Lippman فإن الأخبار لا تعكس الحقيقة بل تفبرك الواقع حيث يرى أن الأخبار والحقيقة ليسا الشيء نفسه، ولا بد من التمييز بينهما. فوظيفة الأخبار هي الإشارة إلى حادثة، ووظيفة الحقيقة هي إظهار الحقائق المخبوءة وربط الواحدة منها بالأخرى، ورسم صورة للحقيقة يستطيع الناس أن يتصرفوا بناء عليها.
لا يحصل الجمهور على صورة كاملة في غالب الأحيان عن المشهد السياسي، بل يتلقى بدلا عن ذلك سلسلة منتقاة للغاية من الومضات أو اللمحات وتكون النتيجة في النهاية تشويه الواقع. وحسب والتر ليبمان هناك تضارب بين الديمقراطية والممارسة الإعلامية اليومية حيث إن وسائل الإعلام لا تقدر على تأدية وظيفة التنوير العام. لا تستطيع وسائط الإعلام تقديم الحقيقة بموضوعية لأن الحقيقة شخصية وتستوجب الكثير من الدقة والتمحيص والتفسير والتأكد، الأمر الذي لا تسمح به صناعة الأخبار التي تتطلب السرعة الكبيرة والمواعيد الدقيقة التي لا ترحم.
إن دراسة علاقة وسائل الإعلام بالسياسة تقودنا إلى مساءلة علاقة تطور وسائل الاتصال بتشكيل الرأي العام، وإلى أي مدى تساهم وسائل الإعلام في إيجاد فضاء عام لمناقشة الأفكار والآراء والأطروحات من قبل الجميع؟ أم أن هناك قوى محدودة جدا تسيطر على الفضاء العام وتحتكره لنفسها لتمرير أفكارها ووجهات نظرها. ما هي العلاقة بين وسائل الإعلام واستطلاعات الرأي العام والرأي العام؟
بالنسبة لبيار بورديو Pierre Bourdieu : الرأي العام لا يوجد وأن الرأي العام الذي يدعيه أصحاب مراكز سبر الآراء والصحفيون ما هو إلا إشكاليات متعلقة بمصالح سياسية تقوم أساسا على عدد معين من المسلمات المغلوطة والخاطئة. أولا باستطاعة أي شخص أن يكوّن رأيا حول موضوع؛ ثانيا كل الآراء تكتسي نفس القيمة؛ وأن هناك تفاهم حول الأسئلة التي تستحق الطرح. فنتائج سبر الآراء التي تبثها وتنشرها وسائل الإعلام، ما هي في حقيقة الأمر، سوى فبركة مصطنعة لمنتج تم استخراجه من حسابات إحصائية لجمع آراء أشخاص لفرض وهم أسمه الرأي العام. تثير أطروحة بورديو تساؤلا كبيرا جدا وخطيرا في الوقت نفسه، يتعلق بالمصداقية العلمية لاستطلاعات الرأي العام وبثباتها وبمفهوم الرأي العام كمصطلح وكظاهرة اجتماعية وسياسية، أصبحت وسائل الإعلام، على حد قول بورديو وشامبان، محكمة الرأي حيث أصبح الواقع يتحدد ويتلخص فيما تنقله وسائل الإعلام وتناقشه وتحلله وفق ما يراه الصحافيون ومحترفو صناعة الرأي العام صالحا ومؤهلا لأن ينقل إلى عيون ومسامع القراء والمشاهدين والمستمعين. وحسب نظرية تحديد الأولويات Agenda Setting فإن وسائل الإعلام من جرائد ومجلات ومحطات إذاعية وتليفزيونية تحدد للجمهور ماذا يقرأ ويسمع ويشاهد ليس هذا فقط وإنما تحدد له كذلك كيف ينظر ويحلل وفي أي إطار يدرك ويفهم الأحداث والوقائع التي تُقدم له.
( الشرق 9/11/2013 )