ماراتون بيروت... وفائض القوة

ما بين الراكضين المشاركين في ماراتون بيروت وعددهم 36 ألفاً ملأوا شوارع العاصمة وضواحيها، ومشهد المشاركين في اقفال الطريق في الدكوانة وسن الفيل احتجاجا على برنامج لشربل خليل عبر التلفزيون، ولقاء أولياء الدم في طرابلس، وطنان متباعدان.
في الأول صورة حقيقية للبنان، للحياة فيه، للفرح، لفائض القوة الذي يستعمل في بناء وطن، وفي ترميم صورة هذا الوطن، بعدما أمعن كثيرون في تشويهه، بل في تدميره على رؤوس ابنائه، كأنهم يكرهون أنفسهم وأولادهم، فلا يريدون لهم وطناً حقيقياً يضمن لهم أمنهم، ومستقبلهم، وحياتهم الحرة الكريمة. المشهد امس في بيروت كان مميزاً، يرسم صورة وطن حضاري جاذب لناس من مختلف الاعراق والجنسيات والديانات، بلد قادر على الجمع وتوحيد الجهود، ونقض كل بيانات التحذير والمنع من السفر الى لبنان.
وفي المشهد الثاني، وطن فندق، نستعمله عندما يلبي حاجاتنا، وينفعنا في تلبية رغباتنا ونزواتنا، ثم نهجره. لكن الأسوأ يحصل في لبنان، فكثيرون لا يهجرونه إلا بعد أن يفرغوا من تدميره، وغالبا ما تقع الحجار على رؤوسهم ويدفعون الأثمان الغالية من دمائهم وحيوات ابنائهم. لكنهم لا يبالون، كأنهم ادمنوا الموت وتعايشوا معه. وهذا ليس ظاهرة صحية كما يحلو للبعض ان يصوره، بل حالة مرضية تمكّنت من المصابين بها، وتضاءل أمل الشفاء منها.
في المشهد الثاني، استعمال القوة، بل فائض القوة في التحدي، وفي تعكير أمن الآمنين، ومحاولة العبث باستقرارهم، وفي اثبات المنطق الميليشيوي الذي يتخطى كل الحدود، في تأكيد لانهيار منطق الدولة وترهل مؤسساتها الأمنية تحديداً غير القادرة على فرض هيبتها. وفي هذا المشهد أيضا رد على التحدي بما يشبهه، أي بمنطق التهديد والوعيد واستحضار الأيام الخوالي السوداء.
مشاهد متناقضة في البلد الواحد. مشاهد ترسم صورة البلدان المتعددة في الوطن الواحد. وهو وطن لنا لكنه لا يبدو كذلك لكثيرين غيرنا، وهو ما تظهره ممارساتهم التي تناقض أقوالهم. يعتمدون على فائض قوة لا يعلمون أن غيرهم جرّبه وانتصر الى حين قبل أن يعود أدراجه الى حضن الدولة التي لا غنى عنها.
ما بين ماراتون بيروت والصور الاخرى، سنتمسك بالصورة الحضارية.
( النهار اللبنانية 2013-11-12 )