تجديد الخطاب الإسلامي

تجديد الخطاب الإسلامي عملية دائبة ومستمرة، لا تتوقف، تبعاً لتجدد الحياة وتجدد وسائل التعامل مع مقتضيات عملية التغيير الدائمة والمستمرة، التي تطال مختلف الموجودات، ومختلف عوالم الأحياء، حيث إن التغيير سمة من سمات الكون، وناموس من نواميس الخلق، ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)).
الإسلام يخاطب الإنسان بصفته سيد المخلوقات، الذي وكَّله الخالق بمهمة الخلافة في الأرض وحـمَّله أمانة رعاية الموجودات والعناية بها، وحفظ توازنها وفقاً لمعادلة دقيقة محكمة، يتوجب على الإنسان فهم أسرارها وحقائقها بما أتاه الله من عقل وقدرات وإمكانات تتطلب تنمية دائمة وتدريبا مستمرا واكتساب مهارات علمية ومعرفية صحيحة.
التجديد المطلوب هو مهمة إنسانية عالمية عامة، ينبغي أن يشترك في إنجازها كل العقول وكل الجهود المختزنة في كل شعوب الأرض، بما يخدم البشرية ويحقق مصالحها في الحاضر والمستقبل، ومهمة الأمة الإسلامية في هذا الشأن تنبثق من الإحساس بالمهمة الرسالية العالمية، وتنبثق من الحرص على البقاء في مقدمة الركب؛ على صعيد الإنجاز الحضاري العالمي، والحرص على الإسهام الفعلي والجاد في خدمة الإنسانية وإسعاد البشرية، وهذا جزء من مفهوم الخيريّة الوارد في الآية القرآنية: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ))، ولم يقل من الناس وإنما للناس، أي بمعنى أنتم خير الأمم للأمم، أي في مجال النفع وتحقيق المصالح العامة لكل البشر، وهداية الناس كلهم إلى ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة، فلا يتم معنى الخيريّة المطلوب إلّا من خلال امتلاك الفهم السليم أولاً، ومن خلال القدرة على توصيل هذا الفهم لعامة الناس ولكل البشر ثانياً، ولا سبيل لامتلاك القدرة على توصيل فلسفة الإسلام العميقة إلّا عبر التواصل القائم على أسس صحيحة، وخطاب جديد متجدد ،يتناسب مع حجم الثورة المعرفية الكبير المتزايد، ومع حجم الثورة في طرق الاتصال والتواصل بين الناس في العصر الحاضر.
لا سبيل إلى التجديد المطلوب إلّا من خلال امتلاك القدرة على توجيه العقل العربي الإسلامي الجمعي في اتجاه البناء والتنمية، حتى يصبح التجديد ثمرة علمية وعملية لمجمل الجهود المتراكمة عبر الأزمان وعبر الأجيال المتتابعة، من أجل مواصلة مسيرة الإنجاز بلا انقطاع، ومن أجل ترابط الجهود بلا خلل، والبناء على الجهود السابقة ما تم إنجازه، مصحوبا بعملية التقويم والاستدراك وما يتبع ذلك من عمليات الحذف والاضافة.
الإسلام أرسى القواعد الراسخة والأصول المتينة لعملية البناء الحضاري التي تشكيل الإطار الفلسفي القيمي العريض، والذي يعطي العقل مساحة واسعة رحبة للقيام بعملية التجديد في الوسائل والأساليب، التي تتناسب مع كل عصر وكل مكان وكل جيل، بحسب ما تراكم لديه من كم معرفي منزايد لا يتوقف عن النمو، ولا يتوقف عن التغيير والتبديل.
يقول القرافي في فروقه: «الجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين» فالمطلوب من العلماء والفقهاء وكل العقلاء وأهل الاختصاص والخبرة في جميع حقول المعرفة إفساح المجال للأجيال للانطلاق نحو البحث والاكتشاف والتجديد، ووقف عمليات الهدم والتضليل، والتجهيل التي تمعن في وقف العقل وتعطيل مسيرة التفكير، وتعود بالناس القهقرى إلى الخلف، وحصرها في قمقم التقليد الأعمى.
وما جاء الإسلام والقرآن إلّا من أجل احداث ثورة في العقل والتفكير على منهجية التقليد البائسة، حيث يقول مستنكراً على الذين يقولون ((إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ)).
إن تجديد الخطاب الإسلامي في مفهوم الدولة الحديثة وبيان قيامها على أسس المواطنة، والتعددية، والتعاقدية، والشورى الملزمة، ومصدرية الامة للسلطة، هو أحد مسالك التجديد الضرورية التي تسهّل على الأجيال كيفية التعامل مع الخبرة البشرية المتطوّرة في عالم السياسة، وفي مجال إدارة التجمعات البشرية في الإطار القيمي الإسلامي.
( الدستور الأردنية 2013-11-13 )