قيم التحضر الإسلامي

يهدف الإسلام إلى نشر قيم التحضر، والارتفاع بمستوى المجتمع نحو آفاق الكمال البشري، من حيث رقي التعامل مع الذات، ومع الآخر، ومع كل موجودات الكون، من أجل رفع منسوب السعادة البشرية، وتقليل منسوب الشقاء، وفقاً لمنهجية دائمة ومستمرة لا تتوقف.
عندما جاء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجراً، عمل منذ اللحظات الأولى على تحضير مجتمع يثرب، وجعله يصعد في مدارج التمدن عبر عدة مسارات متوازنة ومتوازية:
المسار الأول: المسار الايماني، الذي يهدف إلى تخليص المجتمع من الوثنية بكل أشكالها ومضامينها، من أجل السمو بالروح والنفس إلى آفاق الإيمان بالله، الذي يحترم الكينونة الإنسانية عقلاً ووجدانا ونفساً وبدنا، ومن أجل صيانة الكرامة الآدمية عن مزالق الجهل الذي يودي بالانسان، ويهوي به في دركات العبودية، حيث أن الإيمان بالله يحرر الناس من رق العبودية لغيره، ومن رق العبودية للطواغيث والمستبدين، ومن رق الخنوع للظلم والقهر، ومن رق العبودية للمادة، ومن رق الخضوع لمنطق الخرافة والوهم، وكذلك التحرر من رق التقليد الأعمى.
المسار الثاني: المسار الأخلاقي، الذي يقوم على أسس الإخوة في الإيمان، والمساواة في أصل الخلقة الآدمية التي تنفي منطق الطبقية القائم على مبادىء التفاضل بالجنس والعرق أو التفاضل باللون، أو التفاضل في المال والثروة، وقرر أصلاً فلسفياً ثابتاً مؤسساً على قول الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُو إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ))، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: « ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ، ولا لأحمر على أسود ، ولا أسود على أحمر إلا بالتّقوى «.
ثم عمد على إرساء قيم التعارف والتعاون على البر والتقوى، والتكامل بين الأغنياء والفقراء، والشركة العامة في المرافق والمال، من أجل ردم الهوة الاجتماعية بين فئات المجتمع ومكوناته.
المسار الثالث: مسار العناية بالبيئة والصحة والنظافة، عن طريق العمل الدائم على اشاعة الوضاءة و الطهر والنقاء،في المكان والغذاء والشراب والملبس، وإزالة القاذورات من البيوت والافنية والأزقة والطرقات، والساحات العامة، وحفظ الموارد الطبيعية وصيانتها من التلوث، كما حض على زراعة الأشجار والعناية بها، وعمل على إرساء قيم الجمال في النفس والروح،وفي الجوهر والمخبر،وفي الهيئة والمنظر، بالإضافة إلى العناية بالفكر والعاطفة، بحيث لا تقع العين على قبيح، ولا تسمع الأذن إلّا ما هو حسن، ولا يشم الأنف إلّا الروائح العطرة الطيبة الجميلة ، ولا يمس الاحساس الا ما هو ناعم و رقيق ،ومن هنا نفقه تركيز القرآن والسنة النبوية، على مبدأ إعمار الكون، وفقاً لفلسفة الصداقة مع الكون، والمودة مع الخلق،والرفق مع الحيوان،والعناية بكل الموجودات.
المسار الرابع: المسار الاقتصادي، القائم على إعلاء قيمة العمل، والدفع نحو الإنتاج الصحيح، والبعد عن أشكال الإنتاج الوهمي، ومحاربة الإثراء القائم على المقامرة والمراهنات، والبعد عن أساليب الخداع والتضليل ،ومحاربة كل أشكال الكسب غير المشروع ،التي تعمق الخلل ،وتصنع التشوهات في قيم الاقتصاد الكلي.
وفي هذا المجال حرّم الربا، وشجع على المشاركة التي تجمع رأس المال والجهد والفكرة بطريقة عادلة، تحفظ الحقوق لأصحابها، ولا تبخس فضل أصحاب الفضل، كما شجع على التزام مبدأ تداول المال وعدم كنزه وتجميده، وحرّم الاحتكار والاستغلال البشع لحاجات الناس، ونهى عن الكسل والتكاسل والتواكل، ونهى عن التسول وإراقة ماء الوجه، ونهى عن اعطاء الصدقات للأقوياء والقادرين على العمل، ونهج منهج إغناء النفس عن طريق العمل والبذل ، والكسب الحلال بالجهد والعرق.
المسار الرابع: مسار الإبداع الأدبي، حيث عمل على توجيه المواهب الشعرية نحو المثل والقيم الرفيعة، وأمر بالبعد عن الكذب والغيبة والنميمة، كما نهى عن الهجاء والمبالغة في المدح، وشجع على كل ما يعزز الأخلاق العظيمة، ويعالج الأخطاء والسقطات والهفوات، وينمي العواطف الإيجابية، التي ترقى بالروح وتسمو بالنفس والوجدان، وتروّح عن الأبدان المتعبة ؛باللهو البريء الخالي من الفحش والتفحش واللفظ البذيء، ونهى عن كل ما يخدش الحياء، ويسيء إلى الفضيلة، وحارب كل ما يساعد على نشر الفاحشة وإشاعة الرذيلة.
من أجل إقامة مجتمع متمدن و متحضر، عامل ومنتج ،نظيف وجميل، ذي بيئة صحية، وموارد غير ملوثة، وعلاقات متينة، يسوده العدل والتسامح والرفاه والروح الجماعية، ويحتكم الى الدستور والقانون، ويهدف الى اقامة العلاقات الحسنة المتكافئة مع المجتمعات الانسانية.
( الدستور الأردنية 2013-11-17 )