"الزعتري".. آخر مخيمات اللاجئين

المدينة نيوز :- كل مساء تقريباً، تعج الطريق على الحافة الشمالية لمخيم الزعتري للاجئين السوريين بأناس ينتظرون حافلات الركاب التي ستقلهم إلى الوطن -والوطن هو سورية. أحياناً، يكون هناك العشرات ممن ينتظرون ليستقلوا الحافلة، وهناك المئات في أحيان أخرى. ولدى هؤلاء العديد من المسوغات للمغادرة، لكن الغبار وبؤس ظروف الحياة في المخيم تحوم بقوة على قمة القائمة. ويقول اللاجئون الذين ينتظرون هنا إنهم هربوا من سورية عندما قُصفت منازلهم أو ضواحيهم، لكنه أصبح ينتابهم بعد محاولتهم العيش في "الزعتري" توق للعودة إلى لوطن.
يقول أحد الرجال: "حتى الجِمال لا تستطيع قضاء الليلة هنا. إننا شعب محترم. ويجب أن نعامل مثل البشر وليس كالجِمال" ، بحسب الغد .
لكننا لو وصفنا الأمر ببساطة، فإن مخيمات اللاجئين كما نعرفها تظل فكرة رهيبة. عندما تهرب جماعات من الناس عبر أحد الحدود، تبدو المخيمات غالباً وأنها ردة الفعل الضرورية. إنها تجعل من الأسهل إحصاء اللاجئين ومنحهم المأوى والغذاء والرعاية الصحية، كما أنها تهدئ المخاوف الأمنية والاقتصادية للبلد المضيف. وذلك يفسر السبب في أن الحكومة الأردنية والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، قامتا منذ منتصف العام 2012 بإسكان نحو 120.000 سوري في مخيم "الزعتري"، وبإيواء آلافٍ آخرين في مخيمات ومراكز تجمع أصغر في أنحاء البلد. وقد وضعت تركيا نحو 200.000 شخص في مخيمات تديرها الحكومة. ولجأ العراق أيضاً إلى فكرة المخيمات.
لكن أعواما من البحث -سوية مع قصص أناس مثل أولئك الذين ينتظرون مغادرة الزعتري- تظهر أن المخيمات تظل مسألة إشكالية في أفضل الحالات، ونازعة للإنسانية وخطيرة في أسوأ الحالات. ويواجه اللاجئون في المخيمات مخاطر صحية، مثل سوء التغذية والأمراض الوبائية. وتولد المخيمات في الغالب أرضيات للعنف. ومن الممكن أن تسيطر عليها عصابات إجرامية أو بؤر عنف: وفي حالات الصراع يمكن أن تتم عسكرتها. ويقول داون تشاتي، مدير مركز دراسات اللجوء في جامعة اكسفورد: "إذا أردت أن تجد عذراً لانهيار العائلة وللزيادة في العنف العائلي والعنف المستند إلى الجندر أو التطرف، استمر عندئذ بالعمل على وضع الناس في مخيمات". ويفترض في المخيمات أن تكون مؤقتة. لكن ما يحدث في أغلب الحالات هو أن المطاف ينتهي باللاجئين إلى قضاء أعوام، بل وحتى أجيال في نوع من "الليمبو". وفي هذا السياق، قالت لجنة تنفيذية في المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في العام 2004: "إذا كان صحيحاً أن المخيمات تنقذ الأرواح في مرحلة الطوارئ، فإنه من الصحيح أيضاً، مع مرورالأعوام، أنها تقوم أيضاً بهدر تلك الأرواح نفسها باطراد".
على مر الأعوام، جرت محاولات لإيجاد سبل أسمى لمساعدة اللاجئين، لكن تلك المحاولات تعثرت بشكل عام. ويعود هذا في جزئه الضخم إلى المساومات والألاعيب التي يمررها المانحون الدوليون الذين يقدمون المساعدات، مثل المفوضية العليا لشئون اللاجئين التي توزعها، وحكومات البلدان المضيفة التي يكون اللاجئون قد فروا إليها.
ومع ذلك اليوم، في الأردن، تحاول المفوضية العليا لشئون اللاجئين، والمانحون، والحكومة، أن يفعلوا الأمور بطريقة مختلفة إلى حد ما. ثمة استراتيجيتان أساسيتان تتم تجربتهما ومناقشتهما راهناً: تجنب المخيمات كلية، أو جعلها تبدو مثل مدن حقيقة، متصلة بالمشهد الحضري للبلد. وإذا ما صمدت إحدى هاتين الفكرتين وأنتجت قصص نجاح، فإنها يمكن أن تغير حيوات الآلاف من اللاجئين السوريين -وربما حيوات سكان آخرين يمكن أن يُجبروا على مغادرة أوطانهم في المستقبل.
ثمة استراتيجية تكسب الصلاحية، والتي دفعت نحو إجراء تغيير رئيسي في سياسة المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، هي السماح للاجئين بالعيش في المدن القائمة.
نمطياً، تكون مستوطنات اللاجئين التي تتخذ لها جذوراً في المدن غير رسمية، وتتلقى القليل من الحماية. ومع ذلك، يقول العديد من اللاجئين يقولون إنهم يفضلون الإدارة الذاتية والفرص التي توفرها مثل هذه الحالات. وتميل الحكومات المضيفة، في الأثناء، إلى التوجس من "لاجئي الحواضر"، لأنهم يستخدمون الخدمات المحلية، مثل الطرقات والمياه والكهرباء والمدارس، ويتطلعون إلى العمل في الأسواق المحلية. وبهذا، تقع الكلفة الرئيسية لدعمهم على الحكومة التي فتحت حدودها. وقد تقدم الأمم المتحدة والقوى الأجنبية وعوداً بالمساعدة، لكن القبول بتلك الوعود يبقى مقامرة: يعني الثقة بأن لا يترك البلد المعني لن يُترك ليقدم الخدمات للاجئين عندما ينتقل انتباه العالم إلى العناية بكوارث جديدة.
في البلدان النامية ذات الموازنات المحدودة، تبقى هذه المخاوف واقعية جداً. ويضاف إلى ذلك حقيقة أنه من الضار سياسياً لحكومة ما أن تشاهَد وهي تساعد اللاجئين، في وقت يواجه شعبها فيه مصاعب اقتصادية، ويكون هناك حافز قوي للدولة المعنية لكي تجعل اللاجئين مشكلة طرف آخر. وهكذا، تُبنى المخيمات التي عادة ما يكون المجتمع الدولي بشكل عام مسؤولاً عنها. ويقول جيف كريسب، رئيس دائرة التقييم والبحث في المفوضية السامية لشؤون اللاجئين لفترة طويلة، وواحد من بحاثة العالم البارزين في أزمات اللاجئين طويلة الأمد: "كانت المخيمات سبلاً تكون فيها البلدان المضيفة قادرة نوعاً ما على جعل الدول المانحة مسؤولة عنها، وتصوب المسدس إلى رأسها". لكنك بمجرد أن تذهب إلى سلوك الطريق الحضري، فإنهم يخسرون تلك الميزة ووسيلة الضغط".
ويضيف كريسب أن سياسة المفوضية العليا لشئون اللاجئين ظلت لسنوات معادية أيضاً للاجئين في المناطق الحضرية بسبب المشاكل التي يتسببون فيها مع الحكومات المحلية. لكن هذا بدأ بالتغير خلال آخر أزمة لاجئين في الشرق الأوسط من العام 2007-2012، عندما تدفق مئات الآلاف من العراقيين إلى سورية والأردن. وقد وصفت تلك الأزمة بأنها "متخفية/ متسللة" لأن اللاجئين كانوا يصلون ببطء وبشكل نمطي عبر نقاط الحدود النظامية. ولفترة طويلة من الزمن، أدرك القليلون أن العديد من العراقيين لم يكونوا سيعودون إلى الوطن. وبحلول الوقت الذي تحقق فيه هذا الإدراك، كان الوقت متأخراً جداً أصلاً على إقامة المخيمات.
كافحت المنظمات الإنسانية لتكيف مع حالة لم تكن معتادة عليها. ويشرح كريسب ذلك بالقول إن اللاجئين في المدن يكونون "موزعين ويتواجدون في مجتمعات مختلفة.
وتستطيع الالتقاء ببعض اللاجئين، لكنك لا تستطيع أبداً أن تتأكد تماماً ما إذا كنت تصل إلى الأكثر هشاشة أم لا". وفي الأثناء، ادعت حكومتا الأردن وسورية بأن العراقيين شكلوا عبئاً اقتصادياً ضخماً عليهما، (وهو ادعاء نظر له بعض الاقتصاديين بتشكك).
وفي النهاية استقرت جميع الأطراف على حل يستند إلى التنمية. لم يكن ذلك ما تصفه المجموعة الدولية بأنه "اندماج محلي"، حيث يحصل اللاجئون على الحقوق الكاملة والوضع القانوني، بل وربما حتى المواطنة، في البلد الذي هربوا له. لقد كان بالأحرى حلاً مؤقتاً: استمرت الدول المضيفة في استيعاب اللاجئين خارج المخيمات، وقدمت لهم وصولاً محدوداً إلى الخدمات العامة في مقابل مساعدات تنموية دولية. واشتمل ذلك على ملايين الدولارات للمدارس والمستشفيات وشركات المياه والمؤسسات الأخرى.
كانت هناك بعض النتائج الإيجابية. ويستذكر كريسب أنه سأل مسؤولي مدرسة كيف كان رد فعل الآباء السوريين على تدفق أولاد اللاجئين العراقيين. ويقول: "في البداية كانوا قلقين جداً... لكن المجموعة الدولية شرعت لاحقاً في دعم نظام التعليم السوري... وكان الآباء السوريون يقولون: "آه، إنه أمر جيد أننا استقبلنا اللاجئين. ذلك في الحقيقة يحسن من نوعية المدارس".
في الأردن كان الحل أكثر إثارة للجدل. كانت المساعدات الدولية التي قدمت كبيرة، لكن بعض الباحثين (بمن فيهم هذا المؤلف) رأوا أن الكثير منها ذهب لصالح مشروعات التنمية التي كانت لها القليل من الصلة باللاجئين العراقيين. وفي الأثناء، ما يزال البعض في الحكومة الأردنية يدعون بأنه لم يتم تعويض البلد بالكامل أبداً نظير قبوله استقبال العراقيين.
بالرغم من ردود الأفعال المختلطة، نظر إلى المشروع ككل على أنه أكثر نجاحاً من الجهود السابقة لمساعدة اللاجئين في الحواضر. فقد ساعد الجهات المانحة في إظهار اهتمام متجدد بهؤلاء اللاجئين لأنه تبين أن توسيع الخدمات المحلية يمكن أن يكون أرخص كلفة من بناء المخيمات من الصفر، ثم إدامتها. ونتيجة لذلك، ساعدت أزمة اللاجئين العراقيين في الدفع بتحول رئيسي في موقف المفوضية العليا لشؤون اللاجئين: في العام 2009، طلب من كريسب وضع سياسة جديدة حول اللاجئين في المناطق الحضرية، والتي أكدت حقهم في العيش في المدن، بالإضافة إلى التزام المفوضية العليا لشؤون اللاجئين بمساعدة كل من اللاجئين والدول المضيفة لهم.
بفضل التجربة الحديثة مع اللاجئين العراقيين والموقف الجديد للمفوضية العليا لشئون اللاجئين، عندما بدأ اللاجئون السوريون بالتدفق بهدوء إلى داخل الأردن في العام 2011، لم تصر الحكومة في الحال على بناء مخيمات. وبدلاً من ذلك، أخذ الجيش اللاجئين الواصلين حديثاً، وقدم لهم الشاي ووجبة ساخنة، وجلبهم إلى مراكز تجمع في مدينة الرمثا الشمالية. وكل ما تطلبه الأمر لتسريحهم كان وجود مواطن أردني كضامن لمكان تواجدهم -في عملية تدعى "التكفيل". وقد سكن عشرات الآلاف من اللاجئين المكفولين في مدن أردنية تبعاً لذلك، وقدمت لهم الحكومة وصولاً إلى المدارس ورعاية مجانية في المستشفيات العامة.
اليوم، يستضيف الأردن على الأقل نصف مليون لاجئ سوري في مدنه، وربما أكثر. وقد طلب البلد مساعدات تنموية طويلة الأمد، مقراً بأن السوريين قد يمكثون في البلد لأعوام: وقد ظهرت بعض المساعدات أصلاً، ويجري الحديث عن المزيد منها.
لكن هذه الصفقة تبقى تحت الضغط: فقد تلقى الأردن أموالاً أقل بكثير من التي يقول أن حاجته تمس إليها من أجل توسيع بنيته التحتية لاستيعاب السوريين، وهو مصمم على عدم جعل المساعدات تصبح باباً خلفياً لـ"الاندماج المحلي". ويقول إبراهيم سيف، وزير التخطيط الأردني: "نريد من المجموعة الدولية مساعدة وتعزيز قدرة الأردن على الاستيعاب المؤقت لهؤلاء الناس... استناداً إلى الفرضية والافتراض بأن هؤلاء الناس يجب أن يعودوا، متى ما استقرت الأمور في سورية".
إذا كان بالإمكان تهدئة المخاوف الأردنية وتمت المحافظة على الصفقة الراهنة، أو حتى توسيعها، فإن الأردن يمكن أن يشكل عندها سابقة قوية لكيفية قبول اللاجئين في الحواضر والعناية بهم. أما إذا لم يكن الأمر كذلك، فإن لم السوريين الذين يعيشون في المدن الأردنية سيشهدون حرياتهم تتلاشى على نحو كبير.
حتى بينما يستمر في استضافة لاجئين في المدن، شيد الأردن مخيماً أيضاً. ويقول مسؤولو المفوضية العليا لشؤون اللاجئين إن الأردن بدأ بالإصرار على خطة طوارئ عندما تفاقمت الحرب السورية وارتفع عدد اللاجئين. ويوم 31 تموز (يوليو) 2012، تم فتح "الزعتري"، ويقول البعض الآن إن ذلك كان حركة ذات بصيرة نافذة: ومع حلول العام 2013، أصبح أكثر من 50.000 لاجئ سوري جديد يصلون إلى الأردن كل شهر، وفي بعض الأحيان أكثر من 4000 لاجئ في ليلة واحدة. لكن المخيم في حاجة ماسة إلى التغيير أصلاً.
وما يزال الزعتري مأوى لجزء صغير وحسب من اللاجئين في الأردن -أقل من واحد من كل خمسة- وما يزال يتم تكفيل بعض السوريين ليعيشوا في المدن. ومع ذلك، تشكل تكاليف المخيم جزءاً ضخماً من الموازنة الإجمالية للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين الخاصة بالأردن: على سبيل المثال، يترتب جلب 4.1 مليون لتر من المياه لاستخدامات مخيم الزعتري كل يوم بواسطة صهاريج مياه، بكلفة تصل إلى أربعة ملايين دولار سنوياً، وفق المتخصصة في المياه في صندوق رعاية الأمومة والطفولة "اليونيسيف"، كيتكا غويول. كما يترتب شحن المياه العادمة (بواسطة صهاريج النضح) إلى أقرب مرفق لمعالجة المياه العادمة على بعد 35 كيلومتراً، بكلفة تصل إلى ما يتراوح بين 2-3 ملايين دولار في كل عام.
بالرغم من كل هذا الإنفاق، تظل ظروف الزعتري مليئة بالمشاكل. فالحمامات الجماعية المتهالكة غالباً لا تؤدي مهمتها، لذلك تجد العائلات غالباً ما تبني حماماتها الخاصة -لكن مياه المجاري تتسرب إلى الشوارع. وحتى بعد إنفاق ملايين الدولارات على الكرافانات المقاومة للأمطار، ما تزال آلاف العائلات تعيش في خيام تبقى عرضة للعواصف الرملية الهوجاء، والحرارة والبرد والفيضانات. ويشكو سكان المخيم بمرارة من الطوابير الطويلة التي يجب عليهم الوقوف فيها للحصول على السلع المنزلية الأساسية، أو الرعاية الطبية التي يشعرون بأنها غير لائقة. وإذا استمر الزعتري -كما هو مرجح- تظهر الأبحاث عن المخيمات أن هذه الظروف ستذهب إلى مزيد من السوء وحسب.
يعرف كيليان كلاينشميت، الذي يدير مخيم الزعتري لصالح المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، أن الوضع غير قابل للدفاع عنه، ويأمل في تغييره. ويتعزز موقفه بالخبرة التي اكتسبها: فقد باشر كلاينشميت العمل مع اللاجئين في العام 1992، كمسؤول ميدان لدى المفوضية العليا لشئون اللاجئين في مخيم كاكوما للاجئين في كينيا. وبعد عقدين، بدأ ابنه العمل في كاكوما. ويقول كلاينشميت: "(كان) يصلح نفس أنظمة المياه التي كنت قد ركبتها، والتي ما تزال تدار بنفس الطريقة كما كانت تدار قبل 21 عاماً".
وهو مصمم على عدم تكرار الشيء نفسه في الأردن. ووفق وجهة نظره، فإنه يجب تطوير المخيمات إلى أنظمة مستدامة شبيهة بالمدن، وتكون متصلة بالنسيج الحضري وباقتصاد البلد المضيف.
من جهتهم، حاول اللاجئون أنفسهم تحويل الزعتري إلى شيء يقترب من الحياة العادية، فقاموا بتوسيع الخيام والقاطرات التي زودتهم بها المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، وأنشأوا الحوانيت والمطاعم على طول الشوارع الرئيسية في المخيم. لكن الكثير من النشاط الاقتصادي الذي يولده اللاجئون يذهب إلى الأسواق السوداء بدلاً من الاقتصاد الأردني، وهو ما يغذي نمو العصابات الإجرامية. ويقوم المهربون الأردنيون بشراء الغذاء والسلع القادم من المساعدات من اللاجئين ويحملونها إلى خارج المخيم، ملحقين الضرر بالأسواق المحلية. ويسيطر الرؤساء المحليون أيضاً على التجارة بالكهرباء المسروقة، وصهاريج الماء المختطفة، وخردة المعادن ومواد الإنشاءات.
يمثل هذا النوع من "التخريب" و"السرقة" وفق كلمات كلاينشميت "صداماً كلياً للتفاهم (حول) ما يجب أن يكون عليه هذا المكان". وقد تجسد هذا الصدام في تظاهرات وأعمال شغب قام فيها اللاجئون، أو حتى تهديد أو مهاجمة عمال الإغاثة.
منذ وصوله في آذار (مارس)، يحاول كلاينشميت التخفيف من حدة هذه المشاكل. وكان هدفه الأول هو جعل اللاجئين ووكالات المساعدات يتحدثون مع بعضهم البعض، وخفض حالات النزاع وحوادث العنف بينهم.. وعلى العموم، يبدو أن ذلك يحدث. والهدف الأكثر طموحاً -وإثارة للجدل- راهناً هو بناء أنظمة مستدامة في المخيم، والتي تستطيع العمل بمساعدة خارجية أقل. وفي نهاية المطاف، يقول كلاينشميت إنه يجب أن يربط الزعتري، الذي يضم أصلاً رابع أضخم تجمع للسكان في الأردن، باقتصاد البلد الرسمي، وأن يصبح محركاً للتجارة والصناعة.
ويشرح كلاينشميت أن الأمثلة الأولية لما يحتاج إلى التغيير لها صلة بالماء والصحة والكهرباء. فبنفس الكلفة التي يتطلبها شحن الماء إلى داخل المخيم لمدة عام، على سبيل المثال، تستطيع وكالات الإغاثة بناء نظام توزيع مياه عادي للمخيم، على غرار نظام البلديات. ثم بعد ذلك يستطيعون تركيب عدادات مياه لقياس الاستهلاك. ثم يطلب من كبار المستهلكين، مثل أصحاب الحوانيت، أن يدفعوا في مقابل خدمة إيصال المياه إليهم. ولاحقاً، يمكن للسكان الذين يتوافرون على دخل أن يدفعوا في مقابل المياه التي يستهلكونها، بينما تستطيع الأمم المتحدة دعم ثمن المياه للعائلات الأكثر ضعفاً. ومن الممكن استخدام نفس الأنماط لخدمات التصريف الصحي والكهرباء.
على قائمة الأعمال المدرجة لدى كلاينشميت، هناك النقل العام وتحسين الطرقات والإسكان. وهو يقول إن إضفاء الصبغة القانونية وتنظيم التجارة داخل وخارج الزعتري سيتيح المجال للمخيم حتى يسهم أكثر في اقتصاد الأردن. ويعتقد كلاينشميت أنه على المدى البعيد، يمكن لهذه التغييرات أن تفيد اللاجئين والمجتمعات الأردنية من حول المخيم على حد سواء. ويضيف: "إننا نبني شيئاً سيصبح واحداً من أبدع وأحدث مخيمات اللاجئين في العالم".
قبل الأردن ببعض التحركات المحدودة في اتجاه جعل الزعتري يفي برؤية كلاينشميت، كما أن الجهات المانحة تتطلع إلى أموال لدعم التغييرات. وعلى سبيل المثال، تقول غويول من اليونيسيف أن الوكالة جمعت 3 ملايين دولار للشروع في تحديث نظام توزيع المياه. وبالإضافة إلى ذلك، طلبت وزارة المياه في الأردن من الجهات المانحة تمويل وحدات حاويات لمعالجة المياه العادمة في المخيم. وتقدر غويول أن تستطيع تلك الوحدات دفع كلفتها في غضون عام من خلال خفض كلفة نقل الفضلات.
ما تزال هذه الخطط في المراحل المبكرة، وهناك تحديات. ويخلق تدوير اللاجئين مشكلة أمام إنشاء البنية التحتية وبناء مجتمع، كما أن من الصعب إقناع الجهات المانحة بجمع الأموال لمشروعات التنمية، حيث ثمة تكاليف عالية جداً أصلاً لصيانة المخيم يوماً بيوم. كما أن الأردن يتردد أيضاً حيال التغيير الذي يحمل طيف الديمومة، فيما يعود في جزء كبير منه إلى أن العديد من الناس المحليين يشعرون بالحنق من تواجد اللاجئين.
وهكذا، فإن الجهود المزدوجة لاستضافة اللاجئين في المدن الأردنية وجعل الزعتري يبدو أكثر شبهاً بمدينة حقيقية تواجه معارك شاقة. ومن أجل نجاح هذه الجهود، يجب على الجهات المانحة أن ترى القيمة من وراء الاستثمارات طويلة الأمد في البنية التحتية والخدمات في الأردن بشكل عام وفي الزعتري تحديداً. كما سيكون على المسؤولين الأردنيين المتشككين أن يقتنعوا بأن المجتمع الدولي جاد في مساعدتهم، بينما لا يحاول أن يملأ بلدهم بمهاجرين دائمين.
ليست هذه مهام صغيرة. لكن برامج اللجوء والناس الذين يديرونها في الأردن اليوم هم من بعض الأكثر تقدماً في الذاكرة الحديثة. وحيث من المرجح أن يكون تواجد اللاجئين السوريين في الأردن وبلدان أخرى تواجداً يستمر لعدة أعوام، فإن تغيير الكيفية التي يتم من خلالها التعامل مع هذه الأزمة راهناً يضرب مثالاً مهماً - ومحسناً بشكل واسع- للمستقبل.