«آريوباجيتيكا» لجون ميلتون: الشعب لا يحتاج وصاية!

كثر من الكتّاب والمفكرين وربما السياسيين والناس العاديين أيضاً، يطالبون دائماً وأبداً بضمان حرية التعبير لمن يريد أن يعبّر عن نفسه. وهؤلاء يعتبرون أن الرقابة، ومنذ الأزمان البعيدة تعتبر أحد أسوأ الحواجز التي تقف ضد الحرية التي يطالبون بها لمن يريد أن يعبّر. وفي رأيهم جميعاً أن الحق في التعبير يجب أن يشمل حرية الصحافة ونشر الكتب وقراءتها وإلقاء الخطابات في الاجتماعات الخاصة والعامة، وما شابه ذلك. أي انها في اختصار تشمل قدرة المرء على أن يوصل أفكاره الى الآخرين، وقدرة الآخرين على تلقي هذه الأفكار معبراً عنها بالكلمة والصورة والموسيقى أو حتى بالايماء كما بالأنغام. وفي الوقت نفسه يفرّق القسم الأكبر من هؤلاء المفكرين بين حرية التعبير، التي يرون انها يجب أن تكون مطلقة، وحرية المعبّر التي يرون انها يجب أن تخضع الى القوانين والأعراف الناظمة لحياة الناس ومسار المجتمع، مثل أي مواطن آخر كان. تماماً كما ان ليس من حق شخص أن يسرق أو يعتدي على حرمات الناس أو أملاكهم أو يمارس الارهاب العملي أو الفكري تحت حجة أنه اعلامي أو كاتب أو فنان أو مفكر.
> كل هذا يبدو في أيامنا هذه من البديهيات نظرياً على الأقل، حتى وإن كان لا يطبّق دائماً، بل نجدنا في مناطق عدة من العالم نعيش حالات تذكر بالقرون الوسطى وبمحاكم التفتيش. وحسبنا أن نقرأ سنوياً البيانات والتقارير التي تصدرها الهيئات المعنية بالرقابة وحرية التعبير حتى ندرك أن العالم لم يتقدم كثيراً في هذا المجال. أما اذا عدنا بضعة قرون الى الوراء، فإننا سنجد نصوصاً تدافع عن حرية التعبير التي نتحدث عنها هنا، يدهشنا كونها تبدو وكأنها مكتوبة اليوم، في اسلوبها وما تتحدث عنه، وفي تركيزها على القضية التي تعنينا في هذه السطور. ومن ضمن هذه النصوص نص قوي وشبه منسي اليوم للشاعر الانكليزي جون ميلتون، الذي اشتهر، خصوصاً، بسفره الكبير «الفردوس المفقود» وبأنه عاش عدداً كبيراً من آخر سنوات حياته ضريراً يائساً مكتئباً، بما فيها السنوات التي انجز خلالها الأجزاء العشرة التي يتألف منها «الفردوس المفقود». لكن ميلتون لم يكن، بعد، قد فقد بصره وحماسته، حين كتب نصه الذي اشتهر في حينه حول حرية التعبير وعنوانه: «آريوباجيتيكا، خطاب في حرية صدور المطبوعات من دون رقابة».
> كتب جون ميلتون هذا النص، على شكل خطاب موجه الى مجلسي اللوردات والعموم البريطانيين في العام 1644، وكان حينها في السادسة والثلاثين من عمره، وقد عاد من ايطاليا حيث قام بزيارة العالم غاليليو. وسنرى بعد قليل علاقة زيارته لغاليليو بهذا النص. أما هنا فيجدر أن نشير الى أن ميلتون إنما انطلق في كتابة نصه مباشرة من رد فعله الغاضب إزاء قانون أصدره البرلمان الانكليزي يوم 14 حزيران (يونيو) 1643، وفيه حدّ كامل من حرية التعبير، اذ ينص على ضرورة أن يخضع نشر أي كتاب أو نص أو أي شيء من هذا القبيل الى رقابة مسبقة تقرر ما اذا كان يجوز أو لا يجوز نشره وإيصاله الى القراء.
> هكذا، اذاً، انطلاقاً من هذا القانون الذي أثار ثائرة الكتّاب في ذلك الحين، كتب ميلتون ذلك النص الذي استعار عنوانه «آريوباجيتيكا» من الاساطير اليونانية القديمة. وهو منذ بداية النص، حاول أن يلعب بذكاء على حساسية العلاقة والتناقض بين الفكر الكاثوليكي البابوي، الذي كان الانكليز يعادونه حينها، وبين الفكر البروتستانتي السائد في بريطانيا. ومن هنا بدا من الواضح أن ميلتون يوجه خطابه أول الأمر الى البروتستانت الانكليز، مستعملاً ممارسات رجال الدين الكاثوليك فزاعة. وهكذا بدأ ميلتون حديثه بالقول ان واقع الرغبة في اخضاع كل نص الى الرقابة قبل أن ينشر «يجعلنا نتذكر أساليب الكنيسة البابوية ولا سيما أساليب محاكم التفتيش التي سادت بعد مجمع ترنت»، ما يعني ان اصحاب القانون، ودائماً وفق ميلتون انما «يريدون الآن أن ينشروا ثقافة الكنيسة البابوية وأساليب محاكم التفتيش في أوساط المجتمع الانكليزي البروتستانتي الذي يخيل اليه انه بعيد، ومنذ زمن، عن تلك الاساليب وعن مناهج القهر الفكري، بل حدث له كثيراً أن قارعها بكل جدية». وهنا، كي يظل في حديثه على مستوى اكتساب قرائه المؤمنين، لم يفت جون ميلتون أن يذكّر بأن كبار الأنبياء والرسل وكبار آباء الكنيسة بخاصة قد اعلنوا دائماً، في كل وضوح، أو في شكل مضمر ان نتاجات العقل الانساني يجب أن تبقى حرة ويجب أن يكون في مقدور كل البشر، أياً كان انتماؤهم أو طبقتهم، أن يطلعوا عليه ويعرفوه مباشرة، وربما أحياناً حتى يتمكنوا من أن يرفضوه بأنفسهم، لأنه لو رفضوه أو قبلوه، فهو قادر دائماً على أن يزيد وعيهم ويزيد من معارفهم وعلومهم. وكان في رأي ميلتون في هذا النص أن «سماحنا للناس، كل الناس، بقراءة الصالح أو الطالح من الكتابات، معناه الوثوق بعقل الانسان وتعويده على أن يفرق من تلقائه، ومن دون وصاية من أحد، بين الخير والشر، الجيد والسيئ، ما يمكنه من أن يتمثل الأول ويرفض الثاني، طالما أن الله قد اعطى هذا العقل سواسية للناس أجمعين، وليس من حق أحد ان يفرق بين عقل وعقل». ويرى ميلتون أن اعطاء كل انسان الحق في أن يخوض هذه التجربة، وفي أن يمتحن كل يوم على هذه الشاكلة، انما معناه «تقوية عقل الانسان وتصليب شخصيته وجعله عنصراً فاعلاً وجيداً في المجتمع يخدم ربه والآخرين عن وعي بما يفعل». وفي هذا «ما فيه من فضيلة وحض على الفضيلة في الوقت نفسه».
> ويذهب ميلتون، هنا، في حماسته وفي محاججته العقلية، أبعد من زمنه حين يقول إن ليس من المناسب، حتى، منع طباعة ونشر الكتب التي قد تبدو لوهلة ما، مضادة لمصلحة الدولة أو الكنيسة، وذلك، بكل بساطة، لأن الرقابة قد ترتكب الخطأ، اذ تجازف، مثلاً بأن تجد نفسها في مواجهة أفكار تكون من القوة والجدة والرفعة، بحيث قد تبدو في نظر الرقابة مناهضة للمبادئ الاخلاقية أو الدينية، ثم يتبين العكس «وهذا ما يحدث دائماً»، يضيف ميلتون الذي يعطي هنا مثالاً معاصراً، إذ يذكر بمحاكمة العالم غاليليو «هذه المحاكمة نددت بالعالم وأجبرته على التراجع عن أفكاره، ولكن ها هو اليوم بعد سنوات قليلة يعتبر أحد كبار العلماء الذين أنجبتهم البشرية، وها هي افكاره تعتبر صحيحة وثابتة علمياً». أيام المحاكمة، مع هذا، كادت الرقابة تعدم كل فكر غاليليو في شكل نهائي... أليس كذلك؟ يتساءل ميلتون الذي يذكر كيف أن محاكم التفتيش لم تحاكم فكر غاليليو بقدر ما حاكمت جرأته وتطلعه الى المستقبل، وقوته الثورية. ولهذه المناسبة يروي ميلتون في نصه هذا كيف أنه زار غاليليو في آخر أيامه فوجده عجوزاً محطماً، اسير محاكم التفتيش، لمجرد أنه فكّر، في علم الفلك، في شكل يتنافى مع تفكير الرقباء الكنسيين».
> كما أشرنا، نشر جون ميلتون (1608 - 1674) هذا النص الجريء وكان بعد شاباً يتقد حماسة ويناضل من أجل القضايا الكبرى في زمنه. في ذلك الحين كان لا يزال يعيش مرفهاً في لندن، بعد ان تلقى تعليماً دينياً وحقوقياً كبيراً مكتشفاً في نفسه ميلاً الى الفلسفة والشعر في آن معاً، وأتقن الكثير من اللغات لأنه أراد دائماً أن يقرأ النصوص القديمة والأجنبية في لغاتها الخاصة. وهو كان في البداية غزير الانتاج ولا سيما في النصوص الفكرية كما في النصوص التاريخية، كتب في اللاهوت وتاريخ الكنيسة، ثم بدأ يتجه صوب الشعر أكثر وأكثر، وبمقدار ما كانت حياته تنتقل من الرفاهية الى التعاسة، ثم خصوصاً بعدما فقد بصره وزوجته المحبوبة وابنه الوحيد (على ثلاث بنات تباعاً)، فانصرف الى الشعر وأنتج أعماله الثلاثة الخالدة في هذا المجال: «الفردوس المفقود» و «الفردوس المستعاد» و «معاناة شمشون».
( الحياة اللندنية 2013-11-18 )