حصار فلسطين يتجدد في قمة الكويت
"تفضل" مؤتمر القمة العربية الإفريقية الثالثة الذي اختتم يومين من أعماله في الكويت يوم الأربعاء الماضي على عرب فلسطين، المحاصرين تحت الاحتلال داخل وطنهم وفي مخيمات اللجوء والمنافي خارجه على حد سواء، بإصدار بيان "خاص" بفلسطين منفصل عن "إعلان الكويت" الصادر عن المؤتمر.
ولا يعدو هذا البيان كونه تجديدا لإعلان العجز العربي عن إضافة أي جديد سوى الإعلان مجددا عن استمرار التنصل "الرسمي" من المسؤولية عن قضية فلسطين التي لم تعد "مركزية" لدى معظم الدول المشاركة، لا بصفتها قضية عربية ولا إسلامية ولا إحدى قضايا التحرر الوطني ولا حتى كقضية إنسانية من المفترض أن تتجاوز كل الاعتبارات السياسية والاقتصادية.
وكان عنوان المؤتمر "شركاء في التنمية والاستثمار"، لكن "شراكة" فلسطين خرجت من المؤتمر محاصرة عربيا كما دخلته وكانت شراكتها فيه اسمية ومؤجلة عمليا إلى حين ظهور دولة فلسطينية ذات سيادة إلى حيز الوجود.
وليس من المتوقع طبعا أن تكون الدول الإفريقية المشاركة في القمة أكثر عروبة من العرب أو فلسطينية أكثر من الفلسطينيين، فهذه الدول التي لم تستأنف علاقاتها الدبلوماسية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي إلا بعد أن أقام بعض العرب ومنهم فلسطينيون علاقات مماثلة معها لن يتغير موقفها حتى يعمل العرب وأولهم الفلسطينيون بقوله تعالى: "إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" ... أو يغيرون هم أنفسهم.
لقد حذر المفوض العام ل"وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى" (الأونروا)، فيليبو غراندي، يوم الثلاثاء الماضي من زعزعة "الاستقرار الإقليمي" لأن "غزة تصبح بسرعة غير صالحة للسكن"، ودعا المجتمع الدولي إلى "عدم نسيانها" و"معالجة البعد الإنساني" و"تعزيز الأمن الإنساني" فيها.
لكن بيان القمة "الخاص" بفلسطين اكتفى بتكرار الرطانة المعهودة الممجوجة عن تجديد "رفضنا وإدانتنا" لحصار قطاع غزة، واكتفى بالدعوة إلى "فتح" معابره، من دون اتخاذ اي قرار عملي ملزم لدول أعضاء في القمة وموقعة على البيان برفع حصارها للقطاع وفتح معابرها إليه، أو قرار عملي يمثل في الأقل ضغطا ولو رمزيا على دولة الاحتلال الإسرائيلي للغرض ذاته، وكأن المؤتمرين ليسوا جزءا من "المجتمع الدولي" أو كأنهم قد افتقدوا أي حس إنساني.
غير أن الأدهى والأمر هو أن البيان بدلا من ذلك بعث برسالة تشجيع إلى دولة الاحتلال للاستمرار في حصارها وتغولها على الشعب الفلسطيني المحاصر وأرضه ومقدساته، وإلا ما معنى تأكيد القمة في بيانها على "الالتزام بدعم مسار المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي" من دون أن تشترط في الحد الأدنى رفع الحصار ووقف الاستيطان، وكلاهما مطلب فلسطيني لا انقسام عليه، كي تدعم مفاوضات يجمع الشعب الفلسطيني على المطالبة بوقفها، لا فرق في ذلك بين من يؤيد ما يسمى "عملية السلام" منهم وبين من يعارضها ؟!
إن إدانة "إعلان الكويت"، الذي صدر عن القمة، "بشدة الأعمال الإرهابية وعمليات التهريب بكل أشكالها في إفريقيا وفي المنطقة العربية" ربما يكون التفسير الأرجح لاستنكافها عن اتخاذ أي إجراء عملي لرفع الحصار عن قطاع غزة في ضوء وقوع معظم الدول المشاركة في القمة تحت هيمنة الولايات المتحدة التي تدرج حركة "حماس" وحكومتها في القطاع، وكل فصائل المقاومة الموجودة فيه، ضمن قائمة المنظمات التي تعدها "إرهابية"، والتي تدين بحث أهل القطاع مضطرين عن أسباب البقاء على قيد الحياة عبر أنفاق تحت الأرض بعد أن سدت في وجوههم المعابر "الشرعية" فوقها باعتبارها "عمليات تهريب"!
وتبدو القمة، كتفسير آخر، كمن يعاقب قطاع غزة المحاصر على علاقة قيادته بجماعة الإخوان المسلمين، في ضوء موقف الدول العربية الأساسية المشاركة في القمة المعادي للجماعة، وكذلك في ضوء وقوع معظم هذه الدول تحت الهيمنة الأميركية التي تجهد منذ مدة طويلة من أجل ابتداع إسلام على مقاس مصالحها وهيمنتها وشروطها ل"السلام" العربي مع دولة الاحتلال.
وفي هذا السياق، لا يمكن إلا المقارنة بين تنصل الدول العربية المعنية في مراحل سابقة من مسؤولياتها تجاه قضية فلسطين العادلة ومقاومتها المشروعة بحجة علاقات فصائلها مع الاتحاد السوفياتي السابق والصين والأحزاب الشيوعية "الكافرة" وحركة التحرر الوطني العالمية المتحالفة معها وبين تنصلها الراهن من مسؤولياتها بحجة العلاقات "الإسلامية" لفصائل أساسية في مقاومة الاحتلال، والمقارنة أيضا بين تنصلها السابق بحجة علاقات "حماس" مع إيران وبين تنصلها الراهن بحجة علاقة "حماس" مع جماعة الإخوان.
لقد تذرعت هذه الدول بحجج شتى لعدم دعم المقاومة الفلسطينية، كان منها أيضا حجة ضرورة اقتصار ممارسة هذه المقاومة على داخل الوطن المحتل، وقد استجابت كل الفصائل الفلسطينية لهذا الشرط العربي فعلا لكن الدعم العربي، سواء للمقاوم أم للمفاوض الفلسطيني، ما زال رهنا بالقرار الأميركي، ولن تعدم هذه الدول في المستقبل ذرائع أخرى مختلفة، لأنها تعارض المقاومة بكل أشكالها من حيث المبدأ.
إن من يطالب من العرب اليوم حركة حماس بفك ارتباطها مع جماعة الإخوان عليه أولا أن يؤهلها لذلك فيغنيها عن دعم الإخوان أو غيرهم لها، بدعمها وحركات المقاومة الأخرى كحركات للتحرر الوطني، بغض النظر عن انتماءاتها النظرية.
وقد فعلت سوريا وإيران وحزب الله في لبنان ذلك، ومن المؤكد أنها لن تتردد في أن تعيد الكرة، وهو ما يرتب على حماس استحقاق إعادة تقويم لاصطفافها الاستراتيجي إقليميا ودوليا ولموقعها بين انتمائها الإخواني وبين كونها حركة مقاومة للتحرر الوطني.
لكن في كل الأحوال، على من يطالب حماس بذلك ثانيا أن لا يأخذ الشعب الفلسطيني بجريرة أي انتماءات "نظرية" لفصائله المقاومة، فيعاقبه جماعيا بذريعتها، ليس عقابا سياسيا فحسب بل وإنسانيا كذلك كما هو الحال اليوم، بينما تتدفق مليارات الدولارات لتمويل الأجندة الأميركية سواء في الدول العربية أو الإقليمية أو في حل الأزمة المالية للولايات المتحدة وحلفائها.
لقد كان الشعب الفلسطيني وقضيته وأرضه هم الضحية في كل الأحوال، مأخوذا بجريرة علاقات فصائله الوطنية والمقاومة مع قوى خارجية توفر لها الدعم الذي لا تريد هذه الدول العربية المعنية تقديمه، أو تعجز عن تقديمه بسبب علاقتها مع الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين الذين لا هدف لهم سوى ضمان بقاء دولة الاحتلال وأمنها وحماية احتلالها وتوسعها العدواني والاستيطاني وانتزاع الاعتراف العربي بها وتطبيع العلاقات العربية معها.
إن تأكيد القمة على دعم مسار المفاوضات "على أساس مبادرة السلام العربية" و"قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة" قد يخدع القارئ فيظن أنها دعوة لوقف المفاوضات الجارية منذ أواخر تموز/يوليو الماضي بسبب أنها لا تجري على هذا الأساس، وكان الأحرى بالقمة أن تدعو إلى وقف هذه المفاوضات لهذا السبب بالذات، بدل أن تدعم استمرارها حتى انتهاء الشهور التسعة المحددة "إطارا زمنيا" لها كما جاء في البيان.
ف"المبادرة" قد تحولت إلى "سقط متاع" لا تعترف بها لا دولة الاحتلال ولا الوسيط الأميركي ولا يعترف بها فلسطينيا إلا مفاوض منظمة التحرير بحجة أنها أصبحت جزءا من قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1515 كما يكرر الرئيس محمود عباس القول، وهي التي تنص على حل قضيتهم حلا "عادلا متفقا عليه" مع دولة الاحتلال بينما ينص قرار الشرعية الدولية رقم 194 على عودتهم وتعويضهم.
ويظهر تناقض القمة جليا في دعوتها إلى اعتماد "قرارات الشرعية الدولية" أساسا لاعتمادها "القدس الشرقية" عاصمة لدولة فلسطينية، فلا يوجد قرار للأمم المتحدة يدعو إلى "تقسيم" القدس حتى الآن.
أما دعوة القمة لاعتماد "خطة خارطة الطريق" أساسا للمفاوضات فإنها دعوة صريحة لاستمرار "التنسيق الأمني" الفلسطيني المنبثق عن تلك الخطة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.