المنكر... الأزمة في المفهوم

تم نشره الأحد 24 تشرين الثّاني / نوفمبر 2013 01:13 صباحاً
المنكر... الأزمة في المفهوم
حسن بن سالم

ليس بكافٍ أن تصدر التعليمات والقرارات لمنسوبي هيئة الأمر بالمعروف بمنعهم من المطاردات وأخذ التعهدات عليهم في حال مخالفة ذلك، وليس بكافٍ أن يمنع أعضاؤها من سحب الأغراض الشخصية بما فيها الجوالات وتفتيشها، ولم تعد ذا جدوى أية محاولة لإقناع الشارع بالأسطوانة التي اعتدنا سمعاها من المسؤولين والقائمين على جهاز هيئة الأمر بالمعروف، باعتبار أن التجاوزات الشنيعة التي تقع هي مجرد أخطاء فردية لا تمثل هذا الجهاز بأكمله.

هكذا وبكل بساطة، الأمر في حقيقته تجاوز ذلك كله، ولم يعد مقتصراً على المنع والترقيع والتعديل من هنا وهناك على بعض الأنظمة، فنحن في وضعنا الراهن أصبحنا في وضع ملح في تحديد ماهية ومفهوم المنكر أو "الخطأ" الذي يسعى جهاز الهيئة إلى إنكاره على أفراد المجتمع، وهنا يجب الإشارة ابتداء إلى أن المفاهيم عموماً بما فيها تلك المفاهيم ذات الأصل القرآني والبعد الديني كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عادة ما تكون عرضة للعديد من التطورات، فالممارسة البشرية المحاطة بجملة من العناصر المتداخلة، والظروف والملابسات المعقدة، تضفي على تلك المفاهيم ظلال التجربة البشرية، وتخضعها لمقتضياتها في الكثير من الأحيان، كتعبير عن الاستجابة الإرادية لمتغيرات وتطورات الواقع، وبالرجوع إلى المصادر التشريعية في القرآن والسنة، فإننا لا نجد فيها تعريفاً أو معياراً واضحاً ومحدداً يمكن التحاكم إليه في ضبط مفهوم وماهية المنكر إلا من خلال الرجوع إلى الرؤية التراثية المتعلقة بالقضية، وتلك الرؤية التراثية والاجتهادات الموغلة في ظرفها التاريخي والزماني والمكاني ما هي إلا قراءات واجتهادات بشرية قد تكون صالحة للتطبيق وللعمل بها خلال حقبة زمانية معينة أو ظرف مكاني محدد، أما إن أردنا العودة إليها في زمان غير ذلك الزمان فإن اختلاف الظروف الزمانية والمكانية وارتفاع وتطور سقف المعرفة البشرية يؤديان لا محالة إلى إضعافها وانتهائها بل وتحويلها إلى مجرد معارف قديمة وأوضاع تاريخية قد تجاوزها الزمن، وتخطتها المعرفة والتحولات البشرية، وهذا البعد الدقيق هو جوهر الفوارق بين التراث والنص من حيث الامتداد والصلاحية لكل زمان ومكان، بحيث يكون النص مهيأ للاستمرارية كلما تطورت المعرفة البشرية أو تغيرت الظروف والأحوال بصورة جوهرية، وهو ما يعني بالضرورة القول بنسبية مفهوم ومدلول المنكر من زمن إلى زمن آخر ومن مكان إلى مكان آخر، فما قد يكون منكراً في بلد معين وفي زمن معين قد لا يكون كذلك في زمن آخر في ذات المكان أو البلد لاختلاف الشروط الموضوعية التي تحكمت في قيام ذلك المفهوم أو في تحوله.

أما حينما ينظر إلى مفهوم المنكر بالقطعية والثبات في صور ثابتة لا تتغير باختلاف الظروف والأحوال، فحينها يوضع ذلك المفهوم في سياقه الخاطئ، وهو سياق الاغتراب الزماني أو المكاني، بحيث يصبح موجهاً ومحركاً لجهود التراجع والانحدار بدلاً من أن يكون موجهاً ومحركاً لجهود التطوير والارتقاء، وأن نكون على قناعة ووعي تام بأن إجبار الناس على التدين والفضيلة قسراً وإلزامهم به عن غير اقتناع أو اختيار، من الطبيعي أن تكون نتيجته وعاقبته في كثير من الأحوال إلى جعل النفاق والرياء والازدواجية بين الظاهر والباطن فعلاً ممارساً ومنتشراً وشائعاً في المجتمع، لأن الإكراه والإلزام يؤديان إلى تظاهر بالتدين وليس إلى تدين حقيقي، والاقتناع الفردي الذاتي الداخلي لا سلطان لأحد على هذا الداخل إلا من تلقاء الفرد ذاته.

لذلك فالاحتساب في عصرنا الذي نعيشه يجب أن يكون هدفه الرئيس هو الإعلاء من شأن النزاهة والأمانة ونقاء الذمة واستقامة السلوك بدلاً من التمسك بالمظهر كمؤشر للحكم على أخلاق الناس وسلوكهم، والأهم هو الانشغال بالأخطاء والمنكرات التي يتعدى ضررها على المجتمع وعدم الانشغال والتعدي والتضييق على حريات الناس واختياراتهم الشخصية، وهو ما يعني ضرورة وضع مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يتناسب مع صورة المجتمع المسلم في القرن الـ21، وفي سياق رؤية استراتيجية تنظر إلى المستقبل وقضاياه وتحدياته وأولوياته، وأن يكون ذلك المفهوم قادراً على مواكبة الحداثة والتطوير والانسجام مع الحياة العصرية ومتغيراتها، وكل ماعدا ذلك فإننا لن نجني منه ولن يؤدي إلا إلى مزيد ومزيد من حال الجمود والانحدار والتخلف الحضاري.

( الحياة اللندنية 2013-11-24 )



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات