الشهيد عبد الله عزام.. رجل بأمـة
في الذكرى الرابعة والعشرين لاستشهاده
أول لقاء جمعني به كان أمسية ومحاضرة ماتعة ومفيدة له في دار الإخوان المسلمين في شارع السلط في أوائل السبعينات من القرن الماضي, عن سيرة وحياة المفكر العظيم, والأديب الأريب , والعالم المبدع الشهيد سيد قطب رحمه الله, وكان الدكتور عبد الله من أشد المتأثرين بفكر سيد ونهجه وسيرته ومواقفه, ولقد كان لأسلوب الدكتور عبد الله الشيِّق الرشيق في طرح هذه السيرة العطرة, مغناطيسية كبيرة لجذب النفوس والعقول, ومن شدة تأثري به فإنني ما زلت أحفظ معظم أفكار تلك المحاضرة البديعة, ومعانيها القوية المؤثرة إلى يومنا هذا, ومما شدني لمتابعة كل كلمه قالها الدكتور رحمه الله, وجه نوراني صبوح يشرق بالإيمان, وثغر يفترّ عن ابتسامة رضيه لا تفارقه, يتصدق بها على إخوانه ويوزعها في كل اتجاه, وعيون ذات بريق ولمعان أخاذ تتقد بالعزم والتصميم, وقسمات وجهه البريئة الصادقة ومحياه الآسر يخفي خلفهما روح شفافة تألف وتؤلف, ومنطق ساحر جذاب, ولغة رصينة واضحة بينة, وأسلوب ساحر وجميل برّاق, شيخ همام ما إن تراه حتى تألفه, وما إن تسمعه حتى تحبه في الله, وما إن ترافقه حتى تبقى رهيناً لشخصيته الهادئة والثائرة في آن واحد, وتحس أنه يقوم بدور ضخم وكبير وكأنه رجل بأمّه, يعزز ذلك علم جم غزير, وحافظة نادرة ألمعيه, وحرقة للإسلام قوية, وأقوال شاعرية, ويسند ذلك كله سلوك حميد, وخلق قويم, وكرم عميم, ومنطق جميل وأدب رفيع, وبعد عن الشبهات, وفيئة للحق ووقوف عنده, وتواضع جم, وبيت مفتوح بلا ضجر ولا ملل , مما جعل الناس و شباب الدعوة يحبه , ويجله , ويقدره , ويتخذ منه رائدا , وقدوة , ونبراساً, وأسوه .
ولد الدكتور عبد الله سنة 1941م , في سيلة الحارثية من قرى مدينة جنين في فلسطين, وفي بيت فلاحيّ بسيط, أهل دين وخلق, وكان رحمه الله منذ نعومة أظافره متديناً ملتزماً, ولما قرأ بعض النشرات عن جماعة الإخوان المسلمين, قام بمراسلة المراقب العام المرحوم محمد عبد الرحمن خليفة وهو ما يزال طالب مدرسه في الصفوف الإعدادية, في ذلك الوقت الذي قلما تجد فيه شاباً ملتزماً بدينه, لانتشار الأفكار الوافدة وسيطرتها, فالشباب المتدين كان عملة نادرة, فراسله المراقب ثم سارع وزاره في بيته وقريته, ولما لمح فيه نفس نابهة, وذكاء حاد, وفطنة وفهم ورجولة مبكرة, وهو في ريعان شبابه وبواكير فتوته, عرفه على الداعية الأستاذ شفيق أسعد, والمربي الشيخ فريز جرار, ثم التزم بعدها خط الدعوة, ونهل من معينها الصافي معارف جديدة, وأفكار قويمة, وفهم عميق للإسلام وأهدافه ووسائله الواضحة الأصيلة. وبعدما تخرج من المدرسة التحق بمعهد خضوري الزراعي وحصل على دبلوم بدرجة امتياز سنة 1959 . وعين مدرساً في مدرسة أدر في الكرك وبعد سنه انتقل إلى مدرسة برقين في جنين .
وعندما احتلت الضفة الغربية سنة 1967 امتشق الشاب عبد الله بندقيته الانجليزي ذات الخمس طلقات, وذهب مع بعض الشباب ليقاوم اليهود المحتلين, ولكن أهل قريته اجتمعوا حولهم وبجهد جهيد حتى أقنعوهم أن المعركة انتهت والجيوش انسحبت وأن سلاحهم وذخيرتهم لا تصمد دقائق مقابل ترسانة العدو المجرم الغادر .
ولم يهدأ للمرحوم بال ولم يقر له قرار, وما إن بدأت المقاومة تنطلق من الأردن لمحاربة اليهود حتى سارع و انضم لقواعد الشيوخ , وكان أميراً لقاعدة بيت المقدس, وخاض خلال سنوات 68 - 1970 , معارك ضارية مع العدو المحتل مع مجموعه من الشباب المسلم المجاهد , مثل معركة المشروع, ومعركة الحزام الأخضر, ومعركة الخامس من حزيران, وقد كبدوا العدو خسائر جسيمه في الأرواح والمعدات, واستشهد جمع من هؤلاء الشباب المجاهد . ونتيجة لما جرى في أيلول 1970 تجنب المشايخ الفتنه , ثم أغلقت الحدود وحال هذا الامر دون مواصلة الشيخ الشهيد الجهاد , حيث تفرغ لجهاد من نوع آخر في التربية والإعداد والتعليم .
وكان الشيخ قد حصل على شهادة ليسانس الشريعة من جامعة دمشق سنة 1966 بتقدير جيد جداً, وأثناء وجوده في قواعد الشيوخ انتسب إلى جامعة الأزهر و حصل سنة 1969 على ماجستير في أصول الفقه , ثم عين في كلية الشريعة في الجامعة الأردنية, و بعدها أوفد سنة 1971 إلى الأزهر ونال شهادة الدكتوراه سنة 1973 بمرتبة الشرف الأولى . وكان أثناء دراسته في أرض الكنانة قد وجد أن معظم أهل الحق رهن السجون والمعتقلات , ولكن ذلك لم يقعده فقد تعرف على بعض أفراد من عائلة سيد قطب, وبعض المشايخ ممن هم خارج السجن , وكان له دور في العمل على مساعدة أسر هؤلاء الابطال المساجين دون خوف, أو وجل, أو خشية, أو رهبه .
وبقي الشيخ يُدَرِّس في الجامعة الأردنية وينشئ الجيل على الإيمان والإسلام, والتربية الجهادية, والتف حوله الشباب في مخيمات التدريب والإعداد, وبلباسه ( الفوتيك ) يواصل الليل بالنهار, لا يعرف الكلل ولا الملل , وقته كله للدعوة والتربية والإعداد , وبيته تحول إلى مدرسة قرآنية لينشئ جيل قرءاني ليكون له دور في الجهاد والتحرير في يوم اللقاء الموعود .
ولكن قوى الظلام لم تطق جهده وجهاده وتربيته للشباب , وتم فصله من الجامعة الأردنية سنة 1980 . وانتقل بعدها إلى جامعة الملك عبد العزيز بجده , ومنها طلب أن يوفد ويعار للجامعة الإسلامية في إسلام أباد لكي يكون قريبا من أرض الجهاد في أفغانستان . وهناك حاول الدكتور أن يجمع محاضراته في يومين من الأسبوع ثم يتفرغ بقية الأسبوع ليسافر إلى ارض الجهاد , ويشارك بما يستطيع , فأعتلى من على ذرى جبال الهندكوش هذه القمم السامقة وامتطى صهوة الجهاد الأفغاني, وركب ذروة سنام الإسلام الذي عشقه في سفوح وجبال الأرض المباركة المقدسة , وأقدم على الجهاد غير هياب ولا وجل بل يحدوه الأمل, والحب, والشوق لنيل الشهادة, فقد كان يردد دائما : أن ذنوبنا لا يغسلها ويكفرها إلا أن تسيل منا الدماء في سبيل الله, وأن أعظم ما تطمح له النفس , ويطمع له القلب أن تكون الخاتمة شهادة في سبيل الله.
ثم إنه في سنة 1983 عندما رجع إلى جده ليجدد انتدابه في الجامعه الإسلامية, وجد أن إدارة الجامعة قد نزلت له برنامجا لكي يدرس في جده , ولما رفضت الجامعة تجديد عقد الإعارة قدم استقالته غير آبه, ثم تعاقد مع رابطة العالم الإسلامي مستشاراً للتعليم في الجهاد الأفغاني, وتفرغ للجهاد كاملا منذ 1984, فبعد أن تذوق حلاوة الجهاد في فلسطين ثم في أفغانستان شعر انه قد وجد ضالته المنشوده , وكان يقول هؤلاء الذين كنت أبحث عنهم منذ زمن بعيد , وسكن في بيشاور, وهناك قام بتأسيس مكتب خدمات المجاهدين , واستطاع أن يستقطب آلاف الشباب العربي والإسلامي المتعطش للجهاد , لخدمة الجهاد الأفغاني, وكان لهذا المكتب نشاطات عظيمة, وكبيرة, ومميزة, لخدمة الجهاد, تعليمية, وتربوية, وعسكرية, وصحية, واجتماعية, وإعلامية, غطت معظم أنحاء أفغانستان .
واستطاع الدكتور عبد الله أن يصبح رائدا من رواد الجهاد , وعلما من أعلام التربية الجهادية على مستوى العالم ,كما خدم القضية الأفغانية بجهود جبارة وعظيمه, ونقل فكره إلى جميع أنحاء المعمورة, وجاهد بنفسه وماله وأهله أولاً, ثم حرض المسلمين على الجهاد والتضحية بالمال والنفس والطاقة والوسع والخبرة والعلم, فمن خلال محاضراته, وكتاباته, وندواته, ورحلاته, ومجلة الجهاد التي كان يحرر ويكتب معظم مواضيعها نقل الجهاد الأفغاني نقلة هائلة وكبيرة لا تستطيعها دول وحكومات, لكن الإخلاص والصدق وبذل الوسع والجهد المستطاع بارك الله فيه , وأعطى ثماره اليانعة بأعظم نتاج وأكبر دور, وصنع من الجهاد الأفغاني قضيه إسلاميه عالميه , تحظى باهتمام العالم أجمع, وأيقظ بهذه القضية الهمم وأستنفر المسلمين من جميع القارات لنصرة الجهاد الأفغاني . وكان الشباب المسلم في العالم ينتظر مجلة الجهاد , ونشرة لهيب المعركة , والكتب, وأشرطة الكسيت على أحر من الجمر, وكانت مقالات الدكتور عن الشهداء وعشاق الحور العين لها فعل السحر في تربية الشباب , وتحريضهم على المشاركة , لذلك كانت هذه الوسائل وجهود الدكتور هي نافذة الجهاد الأفغاني على العالم .
ثم في داخل أفغانستان استطاع أن يبني المدارس داخل الخنادق, ويفتح دور القرآن, ويبني المستشفيات, والمستوصفات الطبية, ويطبع الكتب المدرسية, والعلمية والفكرية والمصاحف, ويوفر القرطاسية ويدعم المجاهدين بالمال الذي كان يجمعه من المحسنين على مستوى العالم, وعمل على كفالة الأيتام والأرامل, واستطاع أن يوقف سيل الزحف المتدفق للهجرة إلى باكستان , ويثبت الناس في أراضيهم وقراهم .
وكان مكتب الخدمات يستقبل المجاهدين من الخارج ويدربهم , ويجهزهم ثم يرحلهم إلى أرض المعركة مع كفالتهم ما داموا فيها, ونتيجة لاحترامه من جميع القادة الأفغان كان له جهود كبيره في التوفيق بينهم, وإنهاء بعض خلافاتهم ,وجمعهم على التوحد والعمل المشترك .
وكان رحمه الله يجاهد في أفغانستان, وقلبه, وعقله, ونظره على فلسطين, وقد درب عشرات الشباب الفلسطيني, وشحنهم بمعاني الجهاد والثبات على ألحق, وكان لهؤلاء الشباب الدور الكبير في الانتفاضة الأولى سنه 1987 وكذلك بعض العمليات الجهادية الناجحة. ومن هنا تنبه العدو اليهودي واخذ القلق الدائم يساور (الموساد)على دور الدكتور عبد الله في إعداد الشباب, ودور هؤلاء في الجهاد في فلسطين لذلك التقت أهداف أكثر من جهة للخلاص من الدكتور عبد الله، أجهزة الموساد اليهودي, والسي آي إيه الأميركي, والكي جي بي الروسي, والخاد الأفغاني, والآي أس آي الباكستاني, مع بعض الأنظمة العربية التي بدأ الخوف والقلق يدب في أوصالها خوفا على عروشها.
وعندما رأت أميركا الانتصارات القوية والباهرة للمجاهدين الأفغان على الروس أرسلت (نيكسون) الرئيس الأميركي السابق لاستطلاع الوضع في باكستان وأفغانستان, ولما دخل نيكسون مخيم (ناصر باغي) الأفغاني مد يده ليسلم على رجل أفغاني بلغ من العمر عتيا وإذا بالرجل يقبض يده فانتفض الساسة والجنرالات الباكستانيين المرافقين للرئيس فقالوا : للرجل هذا رئيس الولايات المتحدة الأميريكية السابق (نيكسون)! قال الرجل: أنا اعرف ذلك !! لكنني لن أضع يدي بيد كافر , ولا رغبه لي بمصافحته !! ثم إنه أثناء سيره تقدم منه شيخ أفغاني قد أحدودب ظهره وقال بصوت مرتفع لنيكسون لماذا أعطيتم فلسطين لليهود؟! واخذ يتمتم عليهم باللعنات!! فأصاب نيكسون أمر كالصاعقة وأخذه الدوار!! امة تطحنها المصائب طحنا , وتقع عليها الرزايا كالمطر , وهم ثابتون كالجبال , متمسكون بدينهم ومبادئهم , ولا يذلون ولا ينحنون !! فلما رجع" نيكسون " إلى أميركا عقد مؤتمراً صحفياً , ولما سأله صحفي ما المشكلة الموجودة في أفغانستان ؟! قال المشكلة هي ( الإسلام ) !! ويجب على أمريكا أن تتناسى خلافاتها مع روسيا , وتوقف هذا الزحف الإسلامي الخطير الذي بدأ يدب في أفغانستان وينطلق ويتقدم نحو العالم أجمع ، وأن الأفغان لن يكتفوا بهزيمة روسيا بل سيتحركون نحو نهر سيحون داخل الاتحاد السوفياتي ليحركوا سبعين مليون مسلم موجودين هناك وإذا استمر الحال سيدفع الغرب الجزية عن يد وهم صاغرون .
وقبل أن يلتقي بوش الأب مع غورباتشوف في مؤتمر على سواحل مالطا للتوافق على كيفية إنهاء القضية الأفغانية كانت الخطة قد أعدت بالتعاون بين مجموعة من الأجهزة الأمنية العالمية وعلى رأسها الموساد للخلاص من هذه الظاهرة المقلقة, والمؤثرة, التي بلغ تأثيرها معظم أصقاع العالم, وتعدت الحدود, وتجاوزت كل القيود .
وقبل استشهاد الدكتور عبد الله بأقل من شهرين وفي ليلة ليلاء وساحة ظلماء, وضعت يد الغدر والخيانة والجبن والعمالة, بالتعاون مع حكومة حزب الشعب بقيادة بنازير بوتو في باكستان لغما ضخما تحت المنبر في مسجد الشهيد سبع الليل الذي يخطب فيه الدكتور عبد الله عزام رحمه الله, والذي يصلي فيه أكثر من ألفي عربي مجاهد, ولكن قدر الله أن يكتشف خادم المسجد هذا اللغم وهو ينظف المسجد قبل صلاة الجمعة عندما أزاح المنبر الخشبي البسيط ذو الثلاث درجات فابلغ الأجهزة الأمنية, فأخذوه, ولو انفجر هذا اللغم لكانت مجزرة عظيمة لألفي مجاهد في المسجد، وعندما حضر د.عبد الله للخطبة وابلغ ألخبر ابتسم ابتسامة عريضة, وقال: أنا أعلم أن رأسي مطلوباً منذ أن تفرغت للجهاد سنة 1984 وان حياتي منذ ذلك التاريخ هي (نفل) أي زيادة من الله.
فالرجل كان يحمل روحه على كفه ويلقي بها في مهاوي الردى , ورغم النصائح من كثير من الناصحين أن يترك ساحة الجهاد والشهادة ويستلم رئيس جامعه في إحدى الدول الأفريقية, إلا انه أبى وفضل الجهاد والشهادة على كل مغريات الدنيا ومتعها. وبعد النصح الكثير غادر بيشاور الى داخل أفغانستان, ومكث عدة أسابيع, ثم عمل على اتفاق كبير بين القائدين الرئيسين في الساحة حكمتيار (الحزب الإسلامي) ورباني (الجمعية الإسلامية) على التوافق وإنهاء الخلافات والعمل المشترك , وجاء إلى بيشاور ليخطب الجمعة ويبشر الناس بهذا الانجاز الكبير . ولكن يد الغدر الآثمة الجبانة قد أعدت له هذه المرة لغما على زاوية الدخلة التي تدخل إلى مسجد الشهيد سبع الليل , وهو بعرض ثلاثة أمتار متفرعة من الشارع الرئيسي "جمرود رود" في منطقة "أرباب رود ", تحت أنقاض وأتربة على زاوية الشارع , ثم مدوا سلك عن طريق (المجاري) بطول أربعين متراً, وقفت السيارة المنفذة في محطة محروقات تنتظر صيدها , وكانت الخطة محكمة والمتابعة كبيرة , فعندما تأخر سائق الدكتور الخاص ركب في سيارة ابنه محمد وهي سيارة صغيرة ويرافقه ابنه إبراهيم , وعين الغدر تراقبه ثم جاء سائقه أبو الحارث فطلب منه الدكتور ان يتبعه , ولما انعطفت السيارة الصغيرة من الشارع الرئيسي إلى دخلة المسجد , وعلى بطارية السيارة فجر اللغم الذي يقدر وزنه بعشرين كغم , وهو لغم موجه بإحكام نحو السيارة مما أدى إلى شطرها إلى نصفين , وتمزقت جثث الأبناء وانتثرت وطارت على مسافة عشرات الأمتار حتى أن بعض أيدي وأقدام ابنه إبراهيم تعلقت على جدران المحال المقابلة وأسلاك الكهرباء . هذا ولم أشاهد أي رجل أمن باكستاني من الذين كانوا يملأون المكان في الجمع السابقة .
ففي هذه الجمعة الدامية الحزينة وتحديداً بتاريخ 24/11/1989م فقد وقعت جثة الدكتور عبد الله رحمه الله على بعد عدة أمتار من السيارة وقد حفظ الله جثته , فكنت من أوائل من حضر بعد التفجير قادما لصلاة الجمعة فوجدت سائقه أبو الحارث يركض يمنة ويسرة يلاحق الجثث الممزقة لأبناء الدكتور , ووجدت جسد الدكتور سليما سوى جرح بسيط في جبهته ونزيف للدم من أنفه , فوضعناه في سيارة بكب وذهبنا به إلى مستشفى الهلال الاحمر الكويتي ثم نقل الجميع إلى قرية دار الهجرة مخيم (بابي) , الذي يسكن فيه القائد سياف , وحفر قبر بثلاثة لحود في مقبرة الشهداء والتي دفن فيها قبله أمه وأبوه, وضع الدكتور بالوسط ويحضنه أبناؤه من أمامه ومن خلفه , وكانت جمعة دامية حزينة أليمة , وحضر الدفن خلق عظيم من العرب والأفغان والباكستان, وحضر مجموعة من القادة الأفغان أبّنوا روحه الطاهرة مع ولديه الزكيين , واستشهد الدكتور الذي جمع الملايين الوفيرة للجهاد وهو مدين بخمس وعشرين ألف دولار .
انتقلت الروح إلى بارئها , ولكن فكر الدكتور وجهده وجهاده أنتج حالة جهادية إسلامية عالمية لا تزال آثارها قائمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها , وكما قال سيد قطب رحمه الله : تبقى كلماتنا عرائس من شمع حتى إذا متنا من أجلها دبت فيها الحياة . وأختم بهذه الأبيات التي أبّن فيها الدكتور محمد صيام روح الشهيد العطرة وهي أبيات معبره ..
كفكف الدموع فالمصاب ثقيل لا تواسيه أدمع وعويل *** يا(ابن عزام) اطمأن فإنا وفق ما كنت ترتجي وتقول
أمناء على العهود وفاءً أبدياً لا ننثني أو نحول *** ورباط في أرضنا وجهاد ليس فيه التراجع المرذول
وعزاء للمسلمين جميعا وعزاء لنا وصبر جميل *** ففي فلسطين أورق الغرس واشتد أمام الردى وشب الفتيل
وتولى القيادة جيل جديد عبقري التوجهات أصيل *** والغزاة الذين ساد اعتقاد جازم أن طردهم مستحيل
ودعتهم أوهامهم أن يقولوا أن حدّيهموا فرات ونيل *** وتهاوت قدامهم جبهات ورجال ملء الفضا وخيول
ثم حين انبرت (حماس) إليهم أيقنوا أنهم كيان هزيل *** و(حماس) هي الرجا المتبقي بعد أن سلّطت علينا الحلول
تلك كانت من أمنيات ابن عزام فمن يا ترى الغداة البديل *** والى روحه بيان سريع غزة أرسلته بل والخليل