قمة الكويت ومستقبل العلاقات الأفروعربية

لا شك أن روح باندونج لعدم الانحياز ورؤى زعماء التحرر الوطني أمثال نكروما وسيكوتوري وعبد الناصر قد أعادت الاعتبار لمفهوم "الأفروعربية" الذي يجسد الروابط العضوية والحضارية بين العالمين الأفريقي والعربي.
وقد دفع ذلك بالمفكر الكيني الأبرز علي مزروعي إلى القول بأن الأفروعربية تتجاوز مفهومها الثقافي والسياسي، لتعني روابط الدم والاتصال الجغرافي المباشر بين شبه الجزيرة العربية وأفريقيا قبل التشكل الجيولوجي للبحر الأحمر.
بيد أن هذه الفرصة التاريخية للتضامن الأفروعربي قد ذهبت هباء بعد رحيل هؤلاء الذين عاشوا وناضلوا من أجلها.
وقد شهدت حركة التضامن الأفروعربية بعثا جديدا في السبعينيات من القرن الماضي حينما راح مؤيدوها يركزون على أهمية التعاون السياسي والشراكة الاقتصادية بين العالمين العربي والأفريقي، وهو ما جسدته القمة الأفروعربية الأولى في القاهرة عام 1977.
غير أن هذا التفاؤل بعودة الأفروعربية سرعان ما خبا بريقه في أعوام الثمانينيات التي وصفت بأنها عقدة التنمية المفقود في أفريقيا. كما أنها شهدت بداية عزلة مصر عن دائرتها الأفريقية، بالإضافة إلى اشتعال بؤر التوتر في مناطق التماس العربية الأفريقية مثل جنوب السودان والنزاع التشادي الليبي ومشكلة الصحراء الغربية. وهكذا ضاعت فرصة أخرى في مسيرة حركة الأفروعربية الحديثة.
ومما يدعو إلى التعجب والتدبر في آن واحد أن القمة الأفروعربية الثانية، التي عقدت في سرت الليبية عام 2010، قد ولدت ولادة غير طبيعية بفعل الطموحات الشخصية للعقيد الليبي الراحل معمر القذافي.
فقد حاول القذافي تنفيذ رؤيته القيادية في إطار المشروع القومي العربي لكنه باء بالفشل فتحول بشكل لا يخلو من الانتهازية إلى أفريقيا غير العربية، مستخدما كل شيء، بما في ذلك المال لكي يعهد إليه بميراث عبد الناصر الأفريقي.
وأحسب أن أكبر إنجاز للقمة الأفروعربية الثانية في سرت هو الاتفاق على دورية انعقاد القمة كل ثلاث سنوات، وهو ما تحقق بانعقاد قمة الكويت الأفروعربية الثالثة في 19-20 نوفمبر/تشرين الثاني 2013.
فهل يمكن لقمة الكويت أن توقف نزيف الفرص الضائعة في مسيرة التعاون العربي الأفريقي؟ وهل يمثل لقاء العرب والأفارقة لأول مرة في عاصمة عربية غير أفريقية بداية لتأسيس العلاقات بينهما على أسس جديدة بما يعيد التفاؤل مرة أخرى حول مستقبل العمل العربي الأفريقي المشترك؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه في هذا المقال.
الصياغة الجيوستراتيجية الجديدة
لا شك أن محفزات التضامن والتعاون بين العرب والأفارقة هي اليوم أكثر وضوحا من أي وقت مضى.
وربما يحسب البعض أن ثورات الربيع العربي التي شهدتها بنية النظم العربية عام 2011 تمثل نقطة ضعف كبرى في الجيوإستراتيجيا العربية الحديثة، مقابل صعود مكانة بعض الدول الأفريقية إقليميا ودوليا، مثل جنوب أفريقيا وغانا وكينيا وإثيوبيا، وهو الأمر الذي يضر بميزان القوى بين الدائرتين العربية والأفريقية.
على أن القراءة الواعية للمشهد الجيوإستراتيجي في العالمين العربي والأفريقي أثناء مرحلة ما بعد الحرب الباردة تظهر تعرضه لعمليات إعادة صياغة و تشكيل لم يشهد لها مثيلا منذ سنوات التحرر الوطني الأولى.
و يمكن في هذا السياق أن نشير إلى أبرز ملامح هذا التغير:
أولا: عودة التكالب الدولي من جديد من أجل الموارد والنفوذ في أفريقيا، وإن كان عبر آليات وقوى جديدة تختلف عن تلك التي حدثت في نهاية القرن التاسع عشر. فبالإضافة إلى القوى الاستعمارية القديمة مثل بريطانيا وفرنسا، جاءت قوى جديدة صاعدة مثل الصين والهند والبرازيل لإعادة تقسيم النفوذ مرة أخرى، وبما يعيد إلى الأذهان الدلالة السياسية لما بات يعرف في فقه العلاقات الدولية "متلازمة فاشودة" والتي تعني سعي فرنسا إلى اكتساب النفوذ في المناطق الواقعة تحت سيطرة بريطانيا.
ثانيا: عسكرة كثير من بؤر الصراع العربية الأفريقية من خلال تدخل الولايات المتحدة والقوى الغربية، وفي بعض الحالات من خلال وكلاء أفارقة على المستوى الإقليمي.
ونشير هنا إلى نماذج التدخل الفرنسي في ساحل العاج وشمال مالي، والتدخل الغربي في ليبيا، والتدخل الأفريقي والدولي في دارفور والصومال.
ثالثا: إعادة إنتاج سياسات الهيمنة الاستعمارية السابقة في أفريقيا، من خلال تبني مبادئ التدخل الإنساني والمسؤولية من أجل حماية المدنيين، واستخدام الأمم المتحدة باعتبارها منبرا لتنفيذ هذه السياسات الغربية الجديدة.
وهنا يمكن الإشارة إلى ازدواجية معيار العدالة الدولية، حيث إن الحالات الأربعة التي تنظرها محكمة الجنايات الدولية هي أفريقية.
رابعا: إعمال منطق الفك والتركيب في الصياغة الجيوإستراتيجية الجديدة للعالمين العربي والأفريقي، مثل مساندة انفصال جنوب السودان ومحاولة تفتيت ما بقي من دولة السودان، وفرض الإرادة الدولية لتثبيت حل طائفي في الصومال بما يضفي مشروعية على تقسيمه واقعيا إلى ثلاثة أقاليم في الشمال والوسط والجنوب. بالإضافة إلى ذلك ثمة مساندة لبعض عمليات الاندماج الأفريقية مثل الصياغة الجديدة لتجمع شرق أفريقيا بزعامة كينيا.
وإذا علمنا أن النظام الإقليمي العربي قد تعرض لهزات كبرى منذ التدخل الدولي في العراق، وثورات الربيع العربي عام 2011، وهو ما أصاب هذا النظام بالوهن والضعف، بما يعيد إلى الأذهان ذكريات النكبة الأولى عام 1948 لاتضحت لنا أهمية التضامن العربي الأفريقي، من أجل اعادة تشكيل الصياغة الجيوإستراتيجية للإقليمين لصالح الشعوب العربية والأفريقية وليس لتحقيق أجندات ومصالح خارجية.
ومعلوم أن ثمة تحديات كبرى تواجه نجاح قمة الكويت، من أبرزها محاولة اسرائيل المستميتة الفوز بعضوية مراقب في الاتحاد الأفريقي، وهو ما تدعمه بعض الدول الأفريقية مثل إثيوبيا وكينيا ونيجيريا.
كما أن مصر التي ساندت الأفروعربية الحديثة منذ البداية، تحضر قمة الكويت بصفتها العربية فقط، نظرا لتجميد عضويتها في الاتحاد الأفريقي بعد الإطاحة بنظام الرئيس محمد مرسي في 3 يوليو/تموز 2013.
تسييس الأفروعربية
يقول الرئيس الغيني الأسبق أحمد سيكوتوري في لحظة الحماسة الثورية للأفروعربية:"إن دعمنا للقضايا العربية ينبع من مسألة التضامن العربي الأفريقي التي كانت تشكل دائما ركيزة أساسية لسياسة غينيا. ولا يعتمد هذا الدعم على أي مكافآت مالية تدفع لنا من قبل العرب.... أود أن أقول لأولئك الذين يحاججون بأننا نتعامل مع العرب من أجل المال، أقول لهم إننا شعب متدين، يؤمن بالله، ولدينا شعور عميق بالكرامة والمسؤولية. نحن لسنا انتهازيين ولا متسولين بغض النظر عن كوننا فقراء ".
وعلى الرغم من أن القمة الأفروعربية الأولى في القاهرة، أضفت الطابع المؤسسي على التعاون بين الطرفين العربي والأفريقي، من خلال إنشاء المجلس الوزاري الذي يعقد جلساته كل 18 شهرا، والمجلس الرئاسي الذي يعقد جلساته كل ثلاث سنوات، بالإضافة إلى تشكيل اللجنة الدائمة للتعاون العربي الأفريقي، فإن هذه الجهود باءت بالفشل لأسباب ثلاثة رئيسية:
السبب الأول: غلبة لغة المقايضة، أو إن شئت الدقة فقل الابتزاز على الحوار العربي الأفريقي.
فقد كانت المساعدات العربية مشروطة بضرورة قيام الدول الأفريقية بمساندة القضايا العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر.
السبب الثاني: غياب الدور المصري، ففي أعقاب توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، تم تجميد عضوية مصر في الجامعة العربية، وهو ما يعني غياب القوة الدافعة والمحركة للعمل العربي الأفريقي المشترك.
السبب الثالث: اشتعال بؤر التوتر والحدود القلقة في مناطق التماس الأفروعربية، لقد مثلت قضية الصحراء الغربية بين المغرب والجزائر، ومغامرات العقيد القذافي في تشاد، و تجدد الحرب الأهلية في جنوب السودان، عوامل فرقة وانقسام أطاحت بآمال التضامن العربي الأفريقي.
وعلى الرغم من إعادة الاعتبار مرة أخرى للأفروعربية بعد بداية الألفية الجديدة، وتحولات منظومة الأمن الجماعي الأفريقي بإنشاء الاتحاد الأفريقي عام 2002، فإن الأفروعربية الثانية في سرت عام 2010 لم تستطع تصحيح العلاقة بين العرب والأفارقة.
لقد ظلت الاعتبارات السياسية هي المهيمنة على لغة الحوار الإستراتيجي بين الطرفين، كما أن العلاقة عانت من غياب مفاهيم المساواة والشراكة، لتعبر عن انحياز تاريخي لاتجاه التأثير والنفوذ من الشمال (العربي) إلى الجنوب (الأفريقي).
مستقبل الشراكة الجديدة
يبدو أن تاريخ الوجود العربي في أفريقيا مليئ بالتناقضات، وعلى حد تعبير علي مزروعي، فالعرب كانوا فاتحين ومحررين حملوا معهم الإسلام والتجارة، وفي الوقت الذي شاركوا فيه بتجارة الرقيق إذا بهم يحملون لأفريقيا أفكارا ورؤى جديدة.
وإذا كان الإسلام تاريخيا عامل توحيد، فإن بعض التجارب التطبيقية له أضحت اليوم دافعا للفرقة والتناحر، كما تعبر عن ذلك تجارب بوكوحرام في نيجيريا، والشباب المجاهدين في الصومال، والسلفية الجهادية في شمال مالي.
إن الأفروعربية اليوم كما تعبر عنها قمة الكويت، بحاجة إلى تجاوز تلك الصور الذهنية السلبية من أجل بناء شراكة جديدة تقوم على المساواة وتبادل الخبرات المشتركة، بما يعني تصحيح الخلل التاريخي في اتجاه العلاقة الذي أخذ منحى أحاديا معبرا عن هيمنة عربية واضحة.
وقد أحسنت قمة الكويت صنعا باتخاذها عنوان "شركاء في التنمية والاستثمار" ليجسد هذا التحول المنشود في مسيرة الأفروعربية الحديثة.
ومع ذلك فإن هذه الشراكة الاقتصادية الجديدة بين العرب والأفارقة، والتي يتوقف عليها نجاح قمة الكويت، ترتبط بتبني ثلاثة مداخل أساسية:
أولها: السياسات الثقافية والخطاب الإعلامي المسيطر لدى الطرفين، بحاجة إلى إعادة تصحيح بما يمحو آثار الصور الذهنية والخبرات التاريخية السلبية.
و نشير هنا إلى ضرورة تعزيز دور المعهد الثقافي العربي الأفريقي الذي تأسس عام 2002 في مالي، ولم يتجاوز إنجازه إنشاء تمثال وجدارية لابن بطوطة في قلب العاصمة باماكو!
ثانيا: السياسات الأمنية ومقاومة التدخلات الخارجية، إذ يلاحظ أن قضية مياه النيل، ولا سيما تصاعد الخلاف المصري الإثيوبي حول إستراتيجية السدود الإثيوبية، والصراعات المسلحة في دارفور والصومال قد شهدت تدخل أطراف دولية على رأسها الولايات المتحدة وإسرائيل، وهو ما يضر بمنظومة الأمن الجماعي العربي والأفريقي على حد سواء.
ولعل مثل هذه القضايا والسياسات بحاجة إلى حوار إستراتيجي حقيقي بين الطرفين بعيدا عن لغة الاستعلاء والتعصب.
ثالثا: السياسات التنموية المستدامة والتي تحقق طموحات الشعوب العربية والأفريقية.
وهنا يمكن أن نشير إلى إحياء مشروع القاهرة -كيب تاون- بعد تخليصه من أبعاده الاستعمارية، و كذلك الربط بين شبه الجزيرة العربية وساحل شرق أفريقيا عبر مضيق باب المندب من خلال جسر بحري بين كل من جيبوتي واليمن.
أحسب أن العرب والأفارقة وهم يجتمعون وجها لوجه في الكويت للمرة الثالثة، يدركون خطورة تحديات المشهد الجيوإستراتيجي للعالمين العربي والأفريقي، في ظل هذه الغارة الدولية عليهما من أجل اكتساب الثروة والنفوذ، وعليه يصبح العبور للمستقبل مشروطا بتحقق الشراكة الأفروعربية، وبما يجعل القرن الواحد والعشرين قرنا عربيا أفريقيا.
( الجزيرة 2013-11-27 )