انتحار العدالة

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة. رجل قضى بغير الحق فعلم ذاك فذاك في النار، وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار، وقاضٍ قضى الحق فذلك في الجنّة". والمقصود هنا في الحديث ليس النسبة بمعنى أنه ليس من بين مائة قاض مثلا هناك ستة وستون قاضيا في النار، بل هو تصنيف للقضاة أي أنه يمكن أن يكون كل القضاة من أهل النار إذا انطبقت عليهم صفات قضاة أهل النار.
وإذا ما نظرنا إلى حال القضاء في مصر فسوف نجد أن الغلبة هي لقضاة أهل النار الذين يعلمون الحق ويحكمون بغيره إرضاء لسلطة مستبدة تحارب كل قيم العدالة والحرية والكرامة الإنسانية. فهناك تاريخ طويل من العدالة الظالمة التي سادت البلاد والتي ارتبطت أساسا بنشأة الدولة المركزية في وادي النيل وظهور السلطة القوية المسيطرة على كل شيء.
وحتى مع ظهور مفاهيم الفصل بين السلطات واتخاذ الدساتير والقوانين المصرية أساسا لهذا الفصل، إلا أن الواقع أثبت استمرار سيطرة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، التي باتت مجرد أداة من أدوات الحاكم، يبطش بها في مواجهة خصومه السياسيين أو لتنفيذ رغباته غير المشروعة.
وقد ظهر ذلك بوضوح منذ حكم محمد علي ثم ترسخ أكثر مع سيطرة الجيش على الحكم بعد انقلاب 1952، حيث من المعروف أن حكم العسكر هو أشد أنواع الحكم الاستبدادي سيطرة على القضاء نظرا لغبائه السياسي الذي يسعى إلى محاولة القضاء على كل خصومه.
ولعل ما يحدث الآن بعد الانقلاب العسكري على الرئيس محمد مرسي دليل شديد الوضوح على مدى سيطرة حكم العسكر على القضاء واستخدامه البطش بشكل غير مسبوق ضد معارضيه الذين يطالبون بإنهاء الانقلاب وعودة الشرعية ممثلة في الرئيس والدستور والبرلمان الذي تم تعطيله وحله.
فلأول مرة في تاريخ القضاء المصري يتم الحكم دون مستندات وباستخدام العقوبة القصوى المنصوص عليها في القانون مثلما حدث في قضية طلاب جامعة الأزهر الذين حكم عليهم بالسجن سبعة عشر عاما بتهمة محاولة اقتحام مؤسسات عامة. وكذلك الأمر في قضية بنات حركة "7 الصبح" الذين حكمت عليهم المحكمة بالسجن أحد عشر عاما بتهمة المشاركة في تظاهرة ضد الانقلاب، رغم صغر أعمارهم التي تتراوح بين 15 و20 سنة.
ولا يتوقف انعدام العدالة عند الأحكام القضائية، بل شمل أيضا الإجراءات التي تسبق الحكم وهي التي تقوم بها سلطات الضبط والتحقيق، حيث لم تلتزم بالإجراءات القانونية المنصوص عليها، الأمر الذي يمثل انتحارا متكاملا للعدالة في مصر.
كان الجميع يدرك بعد ثورة يناير أن السلطة القضائية تحتاج إلى تطهير، لكن لم يكن أحد يتصور أن الفساد وصل إلى هذه الدرجة التي جعلت القضاة يسقطون إلى هذا الدرك الأسفل من انتهاك حقوق المواطنين وإعدام العدالة على منصتها.
لقد قلت من قبل إن نجاح ثورة المصريين لن يكتمل ولن تحقق نتائجها إلا بعد نسف كل مؤسسات الدولة وإعادة بنائها من جديد. وهذا يشمل تحديدا أربع مؤسسات أساسية هي المؤسسة العسكرية وجهاز الشرطة ومؤسسة القضاء والمؤسسة الإعلامية. ونسفها يعني تغيير كل القواعد الحاكمة لهذه المؤسسات وتغيير كل القيادات والأفراد الفاسدة فيها بأي درجة من الدرجات.
ويبدو أن الانقلاب العسكري يقدم للثورة هذه الفرصة التي لم تكن سانحة من قبل، خاصة بعد سقوط كل هذه الدماء وصدور كل هذه الأحكام الظالمة، حيث لم يعد يختلف أبناء الثورة الحقيقيون على أن الوقت قد حان لكنس هذه المؤسسات.
( الشرق 7/12/2013 )