مانديلا أحد نماذج البطولة

إذا كان لكل عصر من العصور الإنسانية نماذجه البطولية، التي تستحق أن يسجلها التاريخ بحروف من نور، فإن مانديلا يستحق أن يتقلّد لقب البطولة في العصر الحاضر، حيث استطاع أن يقود تجربة نضالية ناجحة تجلّت عبر إنقاذ شعب رزح تحت نير الاستعباد والحكم العنصري البغيض لمدة تزيد على ثلاثمائة عام.
ولد مانديلا العام 1918 في إحدى أفقر مناطق جنوب أفريقيا، وهو الحفيد الأكبر لزعيم قبيلة (تمبو)، وكانت جنوب أفريقيا تخضع لحكم أقليّة بيضاء قدمت من أوروبا؛ استطاعت السيطرة على أرض أهلها الأفارقة البسطاء، ونهبوا أرضهم ومقدراتهم، وفرضوا عليهم سياسة الفصل العنصري، التي تقضي بألا يشاركوا البيض في الطرق والحافلات و المدارس أو المطاعم وفقاً لأحكام القانون المفروض، فضلاً عن المعاملة القاسية والشرسة المصحوبة بالاستعلاء والغطرسة بواسطة استخدام القوة والعنف والمبالغة بالإذلال.
أسس منديلا الرابطة الشبابية في حزب المؤتمر الوطني، تم تسلم قيادة الحزب، وعمل على تأسيس جناح مسلح في مواجهة سياسة الفصل العنصري، حيث تم وصفه بالإرهاب، وخضع للمحكمة التي حكمت عليه بالسجن المؤبد، بعد أن اعترف بنضاله ضد العنصرية معلناً استعداده للموت من أجل قيم المجتمع الديمقراطي، وأصبحت كلمته بياناً سياسياً رسمياً لحركة مناهضة النظام العنصري الحاكم.
مكث في السجن المنعزل في إحدى الجزر قبالة سواحل الكاب ما يزيد على (27) عاماً، وخرج من السجن العام 1990م، ليقود معركة النضال السلمي من أجل تحرير شعبه، ليصبح أول رئيس أسود لدولة جنوب أفريقيا العام 1994م بإجماع السود والبيض معاً، بعدما قاد حركة مصالحة وطنية ناجحة، استطاع من خلالها إنقاذ بلاده من الإنجرار الى مستنقع الفوضى والدم وجنّب شعبه معركة الثأر والانتقام.
من أهم الدروس والعبر في نموذج مانديلا ما يتعلق بتجربة المصالحة الوطنية بعد وصوله للسلطة، فلم تأخذه العزة بالأثم ولم يشعر بنشوة الانتصار، ولم تتملكه شهوة الثأر والانتقام، فكل تلك السنوات الطويلة من الاستعباد والإذلال لشعبه من قبل القلة البيضاء، وكل تلك السنوات الطويلة في السجن والاعتقال لم تدفعه الى الرعونة في الحكم او اللجوء الى منهج التشفي!
حيث أعلن عندما اعتلى كرسي الرئاسة : «ندخل الآن في عهد جديد لبناء مجتمع يكون فيه جميع مواطني جنوب إفريقيا السود والبيض على السواء، قادرين على السير برؤوس شامخة، من دون أن يعتصر قلوبهم أي خوف، مطمئنين الى حقهم الثابت بالكرامة الإنسانية أمة قوس قزح بسلام مع نفسها والعالم».
استحق مانديلا إعجاب العالم، وحظي باحترام الأصدقاء والخصوم، حيث استطاع أن يقود المفاوضات مع حكومة الفصل العنصري على حيثيات عملية الانتقال السلمي للسطة نحو الديمقراطية المتعددة الأعراق، واستطاع أن يشعر البيض بالطمأنينة، وجنب شعبه حرباً أهلية عرقية بدت حتمية في ظل توقع تفجر مكامن الكراهية، وتوقع انفلات الغرائز من عقالها.
لقد استشهد مانديلا بما فعله النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- عندما عاد الى مكة فاتحا منتصراً، بعد أن كان طريداً محارباً مهدداً بالقتل والاستئصال، ولكنه قال لأهل مكه: «اذهبوا فانتم الطلقاء»، لينهي مرحلة تاريخية مليئة بالدم والقتل والكراهية، من أجل البدء الجماعي للأمة بكل مكوناتها معاً في معركة البناء للدولة والمجتمع الواحد، والانطلاق نحو تحرير البشرية، ونشر قيم الإيمان والحرية والسلام والعدل.
تحيه إجلال وتقدير للراحل العظيم مانديلا، بكونه أحد نماذج البطولة، وأحد رموز النضال القيمي النبيل ضد الظلم والقهر والاستعباد، وضد أنظمة الفصل العنصري، وضد جميع أنظمة الديكتاتورية والاستبداد والفساد.
( الدستور الأردنية 2013-12-08 )