صباحات الثلج النقيّة

تم نشره الإثنين 16 كانون الأوّل / ديسمبر 2013 02:12 صباحاً
صباحات الثلج النقيّة
د.رحيل محمد غرايبة

عندما أسفر الصبح، وأماط لثام الليل عن سلسة الجبال الممتدة من السلط وصولاً إلى دبين ثم إلى عجلون، يتاح للناظر من شرفة أبونصير المطلة على جهة الشمال والغرب؛ رؤية ذلك المنظر المهيب الذي يثير قرائح الشعراء وعواطف الأدباء الجياشة، وقد راعهم جمال اللوحة البديعة، المتمثلة بهذا الرداء الأبيض الممتد عبر الأفق، الذي غطى الأرض بكثافة ونعومة باردة.

جاء الثلج براياته البيضاء يغزو سواد الليل، ليطهر الأرض مما لحق بها من عفونة، وينقيها مما علق بها من أسباب المرض والداء الذي يفتك بالمزروعات والأشجار ويهدد الثمار،وكذلك من اجل ان يغسل الشوارع والأزقة في القرى والمدن من الأدران، ويزيل كتل الغبار المتراكم على النوافذ والابواب عبر الشهور المنصرمة، وكما يقول أهل التجربة والخبرة في شان المزروعات الجبلية، كاللوزيات والتفاحيات والكروم؛ بأن الثلج ضرورة لتظهير الأرض وتعقيمها، وكلما زادت كثافة الثلج وطال مكثه ،كلما كان ذلك مدعاة للتفاؤل بموسم خيّر ومثمر ومبارك،وانتاج غزير ومحصول سليم معافى. نحن معشر البشر أشد حاجة من الأرض والتراب والجبال والأشجار لتلك العواصف الثلجية البيضاء ! التي يجب ان تغزو قلوبنا المتعبة، لتزيل عنها غبار الزمن ،وما علق بها من أدران، وتطهر نفوسنا المتخمة من آفات الغل والحقد، وتغسلها من بذور الكراهية والتشفي والانتقام، فهذا ليس من باب المبالغة إذ أن كل ما يجري في الارض من قتل وحروب وتشريد وغصب وسلب ونهب،ما هو الا بسبب القلوب القاسية ،والنفوس المريضة ،والصدور المشبعة بالحقد والكراهية،(قل ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت ايدي الناس).

يقول علماء الاجتماع: إن الانسان مدني بالطبع، إذ لا يستطيع العيش منفردا،ولا يستطيع الحياة الاّ في مجتمع بشرى، فالفرد لا يستطيع قضاء جميع حوائجه بنفسه لنفسه، مما يجعل حاجته إلى غيره ضرورة ملحّة، ولكن المشكلة عندما يتجمع الناس يختلفون؛ لتناقض مصالحهم وتقاطع حوائجهم، ولذلك فان وظيفة الأنبياء والرسل والمصلحين والحكماء والفلاسفة كانت من اجل تسهيل حياة البشر، من خلال تطهير قلوبهم من كوامن الحقد والغل والحسد، وتنقية نفوسهم من بذور الاختلاف وأسباب النزاع، ولكن المشكلة عندما يستخدم الجهلاء الدين وسيلة لزرع بذور النزاع في المجتمع! او عندما يستخدم الظالمون العلم اداة لتعميق الإختلاف بين البشر، والمشكلة الأكبر والاكثر تعقيدا عندما يغلف بعض البشر حقدهم وضغينتهم وتعصبهم، بكلمات المصلحين ومقولات الفلاسفة ومرويّات الدين!!

إذا كان الخلاف بين أصحاب المصالح المادية امرا متوقعا بل محتوما، حتى لو تطور نحو مستويات تتعدى الحدود والمنطق فسيبقى ذلك في حدود المشكلة التي يمكن حلها في حدود العرف الإجتماعي المحتمل، أما الاخلاف بين أصحاب الآراء والمنشغلين في المجال السياسي أو الفكري والثقافي او الديني، فيجب أن لا يؤدي الى التباغض والتدابر ، وينبغي ان يكون اختلافهم نموذجاً للاحترام المتبادل، ونموذجاً للقبول والتعايش بين الاراء، وعليهم أن يكونوا قادرين على إيجاد المعادلة التي لا تصل بهم إلى مستويات الغل والبغض المرفوض، الذي يكون سبباً للانقسام ! وسبباً في إيجاد بيئة العنف والاقتتال في المجتمعات.

ان العودة الى المنطلقات، والعودة إلى المرجعية القيمية ،وإعادة التدقيق في الغايات والأهداف التي قامت عليها التجمعات السياسية والفكرية، سوف يكون ذلك عاملاً من عوامل التهدئة، وعاملاً من عوامل تقليل حدة الخلاف بين المختلفين، وسوف يؤدي حتما الى تخفيف التوتر، وازالة الاحتقان الذي يعتمر في النفوس، ولكن في مقابل ذلك فان فقدان الحكمة ،واتباع الهوى، والاستغراق في التفاصيل ،و التيه في مسارب الاختلاف الضيقة، سوف يؤدي الى ضياع البوصلة ونسيان الغاية، وسوف يؤدي الى انعدام القدرة عندئذ على استيعاب الرأي والرأي المخالف.

قدوم الثلج مناسبة لتفهم سنة الكون في التجديد، و ضرورة الترميم الدائم للنفس، وضرورة مواصلة اصلاح الذات بطريقة مستمرة لاتتوقف، من اجل تجديد الروح، وإعادة النماء، وفرصة فريدة للتأمل الهادئ العميق، المصحوب بالتواضع الصامت، والانابة الخالصة المفضية الى تصحيح المسار.

( الدستور 16/12/2013 )



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات