حقائق ولكنها انتقائية

ليس هناك حقيقة مطلقة، فالحقائق نسبية ومتحولة، وكل حقيقة لها وجهان أو أكثر، مما يعطي صاحب الرأي فرصة انتقاء الحقائق التي تخدم غرضه وتلبي انحيازاته، فالحياد المطلق خرافة.
تقييم الأوضاع الاقتصادية مثلاً ينطلق في جميع الحالات من قاعدة الانتقاء، فهناك مؤشرات إيجابية تدل على أن الاقتصاد بخير، وهناك مؤشرات سلبية تنذر بمخاطر قادمة.
ينتقي البعض الجانب الإيجابي، فيتهم بأنه يمالئ الحكومة، مع أن ما يقوله صحيح، ويمثل حقائق ثابتة ولكن ليس كل الحقائق. وهناك في المقابل من يختار الجانب السلبي، ويتهم بأنه معارض أو عدمي أو متشائم، مع أن ما يقوله صحيح أيضاُ، ويمثل حقائق، ولكن ليس كل الحقائق ولا شيء غير الحقائق.
ما ينطبق على الاقتصاد ينطبق على السياسة وعلى جميع مناحي الحياة الاجتماعية. يكفي أن نشاهد واقعة معينة على شاشة التلفزيون مثل مثول الرئيس المعزول محمد مرسي أمام محكمة الجنايات، حيث تتم تغطية الحدث بشكل انتقائي يدل على موقف المعلق أكثر مما يدل على سلوك المتهم، فيرى فيه البعض عزة وكرامة، ويرى فيه البعض الآخر ذلاً ومهانة.
ليس غريباً والحالة هذه أن يقع الصحفي في حالات تناقض من وقت لآخر مع أنه لم يجانب الحقيقة، ولكنه انتقى الإيجابيات عندما كان الحوار يتطلب ذلك، وانتقى السلبيات عندما كان النقاش يتطلب ذلك.
يبدو هذه واضحاً عندما تقرأ مقالاً يحمل آراء حادة معينة، ثم تقرأ الرد عليه في اليوم التالي، فتحتار في تحديد من هو المصيب الذي كسب الحوار، ومن هو المخطئ الذي خسره. فأدلة كل منهما صحيحة وموثقة.
في التعليق على سلوك الحكومة مثلاً تجد وجهين لحقيقة واحدة، وأكثر من ذلك تجد الرأيين الإيجابي والسلبي ينطلقان من نفس الاحداث والوقائع وربما الأرقام، فيقدمها البعض على أنها إنجاز وجرأة وخدمة للمصلحة العامة، ويقدمها البعض الآخر على أنها عناد وإساءة للمصالح العامة.
الانتقاء ليس ظاهرة معيبة يجب أن نتخلص منها، بل وصف لواقع، فالإعلام انتقائي بطبعه، وليس ادل على ذلك من المعالجات التي نقرأها يومياً في التعليق على أحداث سوريا، فهذا يتحدث عن نظام مستبد يقتل شعبه، وذاك يتحدث عن منظمات إرهابية مسلحة تدمر الدولة السورية.
القارئ أو المشاهد لا يخلو بدوره من الانحياز، فلا غرابة إذا كان يحب أن يقرأ ويشاهد كل ما يؤيد وجهة نظره، وأن يدين ويقاطع ما لا ينسجم مع قناعاته.
إذا كان الحياد مستحيلاً فماذا عن قدر من التوازن.
( الرأي 2014-01-10 )