اليرموك وصمة عارٍ في جبين الأمة
بأي ذنبٍ يقتل الفلسطينيون في غير وطنهم، وعلى أيدي غير عدوهم، أهم قتلةٌ أم إرهابيون، أم هم لصوصٌ وقطاع طرق، أم هم جهلة وهمجيون، وسوقةٌ وغوغائيون، أم أنهم غدروا وخانوا، وفرطوا وانقلبوا، فاستحقوا القتل عقاباً، ألا يكفي لجوؤهم ومعاناتهم، فهم في أكثر من مكانٍ يحرمون من العمل، ويطاردون في الرزق، ويضيق عليهم في العيش، ويجردون من الحقوق، ولا يساوون بالبشر، ويكدسون في بيوتٍ أشبه بالعلب المتراكبة، وأحياناً تفوق عليها الحظائر والاصطبلات نظافةً وترتيباً واهتماماً.
ألا ترون أن هذه المعاملة تيئسهم، وتدفعهم نحو القنوط، والبحث عن مخارجٍ وحلول، تخلصهم مما هم فيه من ذلٍ وهوان، وتنقذهم من بؤس حالهم، وسوء ظروفهم، ولو كان الحل والمنجاة، في هجرةٍ جديدةٍ، ولجوءٍ آخر، قد يبعدهم عن الوطن، ويحول بينهم وبين الحلم بالعودة، أو التفكير في الوطن، كما أنها تدفع بعضهم للتطرف والتشدد، وتجبرهم على تبني العنف وحمل السلاح، والقيام بكل ما من شأنه استعادة حقوقهم، أو الإنتقام ممن ظلمهم وأذلهم، وممن أساء إليهم ونال منهم، علماً أن العديد من السلطات العربية تستعدي الفلسطينيين، وتنظر إليهم بخوفٍ وريبة، وشكٍ وقلق، وتسبقها إليهم عيونٌ مليئة بالكره والحقد والإزدراء.
ولو فكر الفلسطينيون في الهجرة والفرار، والسفر واللجوء، فإنهم لا يستطيعون مغادرة مربعاتهم الأمنية المحروقة، ولا تستقبلهم سفاراتُ الدول الأجنبية، ولا ترحب بهم مؤسسات الأمم المتحدة، ولا مكاتب وكالة الأنروا التي تأسست من أجلهم، وأنشأت لخدمتهم وإغاثتهم، ومساعدتهم وتقديم الخدمات لهم، بل إن الوكالة الدولية ماضية في تقليص خدماتها، وتتراجع في مهامها، وتعلن كل يوم عن تقليص جديدٍ في ميزانياتها، وتخرج من دائرة اهتماماتها قطاعاتٍ واسعة من الشعب الفلسطيني، في الوقت الذي تقف فيه عاجزة عن حماية مقراتها وهيئاتها، والمدارس والعيادات والمراكز التموينية التابعة لها، إذ تقوم سلطات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة بالإعتداء عليها، وقصفها وتدميرها، وهو ذات المصير الذي تتعرض له اليوم في سوريا، إذ لم تعد مقرات الأمم المتحدة ملاجئ آمنة، ولا مقراتٍ محمية، ولا هيئاتٍ دولية يمنع الإعتداء عليها، بل طالتها القذائف، ونالت منها الصواريخ، وأخيراً سقطت عليها براميل البارود المتفجرة، فقتلت وأصابت كل من لجأ إليها طالباً الحماية والأمان.
هل كُتب على الفلسطينيين أن يكونوا ألم مخاض الأمةِ في كل مكان، وفي كل زمان، ففي لبنان كان الفلسطيني وقوداً لحربٍ دموية قاسية، أتت فيه على الأخضر واليابس، وتركت آثارها الأليمة على اللاجئين الفلسطينيين في كل المخيمات الفلسطينية في لبنان، وفي الأردن كانوا حطباً لنارٍ عظيمة، ووقوداً لسياسةٍ مرسومة، وغاياتٍ معروفة، شارك في التخطيط والإعداد لها كثيرون، بغية طرد الفلسطيني وتشتيته، وإبعاده عن حدود بلاده، ليأمن العدو، ويستقر حكم الأخ والشقيق.
وفي الكويت كان الفلسطينيون خشبة الخلاص، وجسر العبور، وطود النجاة لشعب الكويت، الذي انتقم ممن عمر بلادهم، وعلَّم أجيالهم، وعاش معهم وبينهم سنين طويلة، فطردهم خارج حدود بلاده، ليرفع بترحيلهم عماد دولته، ويعلي راية إمارته، فكان تشريدهم الأشد والأقصى، والأسوأ والأنكى، بعد النكبة والنكسة.
أما تدمير مخيم تل الزعتر فكان خدمةً لفريقٍ على حساب آخر، لا علاقة له بالقومية، ولا شأن له بالمصالح الوطنية، بل إنه أضر بثوابت الأمة، وغير موازين المعركة بإتجاهاتٍ خاطئة، فحتى يقوى تيارٌ لبناني على آخرٍ وطني، كان لا بد من توجيه ضربةٍ للمقاومة الفلسطينية، ولو كانت الضحية شعبٌ يشرد، وأطفالٌ يُيتمون، وأحلافٌ معادية تتشكل، وعدوٌ متربصٌ يجد الفرصة للدخول وأخذ حيزٍ ومكان.
وفي العراق كان لا بد من ضرب أجنحة الطائفة السنية تمكيناً للطائفة الشيعية، وتعزيزاً لقوتها ونفوذها الصاعد، ولو كان ثمن ذلك قتل الفلسطينيين أو إخراجهم من العراق، فهم وفق التصنيف الطائفي المقيت البشع سنة، وبحساب السلطات الحاكمة، فإنهم يحسبون على الطائفة السنية، ويزيدون في عددهم، وقد يضاعفون في قوتهم، وحجتهم في ذلك أن الفلسطينيين أقوياءٌ أشداءٌ، وأنهم يشكلون قوة لكل من ينحازون إليهم، ويقفون معهم، ويكونون من صفهم.
ويكأن الفلسطيني في شتاته وترحاله، وفي مخيماته وتجمعاته، هو جسر عبور الثورات، وبقاء السلطات، ودوام الأنظمة والحكومات، فبدمائه تتجذر الحرية، وتنتصب للحقوق رايات، وبإزهاق روحه تطول الأعمار، وتتحرر البلاد، وتنعتق الأوطان، وما علموا أن الفلسطيني لعنةً على قاتليه، ولعنةً على المتآمرين عليه والمتاجرين بقضيته، وأن دماءه إن سفكت فهي تعجل في رحيل من سفكها، وتكون سبباً في نهاية ملك من تهاون فيها، وسهُلَ عليه التضحية بها أو التفريط فيها.
ويلٌ لمن يخطط وينفذ، ويتعهد القيام بهذه المهام القذرة المشبوهة، فلا نية سليمة لدى كل من يعتدي على الفلسطينيين ويشتت جمعهم، ويفرق صفهم، ويستهدفهم في بيوتهم ومخيماتهم، إنه بهذا ينفذ مخططاتِ غيره، ويخضع لتعليمات من سواه، بغية تشتيت هذا الشعب، وإبعاده عن جوار أرضه، أو إشغاله بغير قضيته ووطنه، وإقصائه عن هدفه وحلمه بالعودة.
إن من يضيق على هذا الشعب ويزيد في آلامه، يضر بالأمة كلها، ويخدم العدو ومن والاه، وإن من كان مع فلسطين القضية، فهو معها وطناً وأرضاً وشعباً، فمن يمزق الشعب كمن يمزق الوطن، ومن يشتت الشعب والأهل، كمن يقبل بتشتيت الأرض، وتقسيم الوطن، ذلك أن فلسطين قبل أن تكون أرضاً ومقدساتٍ، فهي شعبٌ وسكان، عمروا فلسطين وسكنوا فيها، وإليها انتموا وعلى أرضها نشأوا، وفيها يعيشون وإليها وإلى العودة يتطلعون، فمن يقتل الشعب، فإنه يغتال الوطن.