لا يكفي ولا يجوز

أحذر من نسيان حادث قتل المصريين السبعة في ليبيا، وأخشى أن يقتصر صداه على تصريحات الشجب والإدانة والحديث عن التعويضات مع التعبير عن الغضب والتضامن. وهو ما قد ينتهي بإيداع الملف في ثلاجة البيروقراطية إلى جانب ملفات غيرهم من القتلى المصريين الذين لا يعرف من قتلهم ولا حوسب أحد على قتلهم. إلى جانب ذلك فإنني لست أخفي قلقا من أننا في التعامل مع الحدث وجدنا أن صوت الكنيسة المصرية كان أعلى من صوت الدولة المصرية. لست أنكر شيئا من تلك الأصداء، وإنما أقدرها وأحترمها، لكنني أقول إن بعضها لا يكفي وبعضها لا يجوز، وجميعها دون الحد المطلوب للتعامل مع الحدث.
فالحزن وارد والإدانة واجبة والتعويضات واردة، إلا أنه لا يجوز أن يكون اهتمام الكنيسة بالموضوع أكبر من اهتمام الدولة، فالقتلى مصريون قبل أن يكونوا أقباطا، بل أزعم أن كونهم أقباطا يقتضي من الدولة بذل جهد متميز في التعامل مع قضيتهم.
لا يقولن أحد إن الدولة غارقة في الهموم والشواغل، لأن أجهزتها التي تستنفر لملاحقة أطفال يحملون بالونات عليها شارة رابعة أو مجموعة من الفتيات تظاهرن على كورنيش الإسكندرية، أولى بها أن تستنفر لقتل سبعة من أبنائها في بلد شقيق.
قبل أن أسترسل أستأذن في وقفة قصيرة تسلط بعض الضوء على إجابة السؤال: ما العمل؟ ـ إذ ربما يذكر البعض أنه في شهر سبتمبر من عام 2012 حدث قصف للقنصلية الأمريكية في بنغازي ــ وهي ذات المدينة التي قتل فيها المصريون السبعة ــ الأمر الذي ترتب عليه حدوث اشتباك أدى إلى مقتل السفير الأمريكي كريس ستيفنز، إضافة إلى ثلاثة من العاملين في السفارة. وعلى الفور أثيرت التساؤلات حول الفاعلين، فقيل إن تنظيم القاعدة وراء الحادث، وقيل إن مجموعة إرهابية محلية ارتكبت الجريمة ردا على فيلم الإساءة إلى النبي محمد عليه الصلاة والسلام. ونقلت إذاعة «صوت روسيا» تصريحات أدلى بها اثنان من المحققين الغربيين أشارت بأصبع الاتهام إلى دور للدكتور محمد مرسي الذي كان يرأس الجمهورية آنذاك ومن ورائه جماعة الإخوان بطبيعة الحال. كما أثير جدل في الكونجرس حول احتمالات التقصير في تأمين السفارة والسفير، وهو بالمناسبة مستمر حتى الآن. وبعدما جرت الطقوس المفترضة في هذه الحالة، وإلى جانب كل ذلك سارعت أجهزة المخابرات إلى التحرك في هدوء على الأرض بحثا عن الطرف أو الشخص المسؤول عما جرى. أخيرا، بعد أكثر من عام (في شهر أكتوبر2013) فوجئنا بأخبار تعلن أن المخابرات الأمريكية قامت باختطاف الشخص المتهم بتدبير العملية من منزله في طرابلس، ونقلته إلى باخرة كانت راسية في الميناء، ومنها إلى واشنطن للتحقيق معه تمهيدا لمحاكمته.
وقد اشتهر الشخص باسم أبو أنس الليبي (49 سنة) في حين أن اسمه الحقيقي هو نزيه عبد الحميد الرفيعي، وتبين أنه كان ضالعا في تفجير سفارتي الولايات المتحدة في تنزانيا وكينيا عام 1998.
ورغم أنني ضد عملية القرصنة التي تمت، فإن الشق الذي يهمني في الموضوع هو الدور الذي قامت به أجهزة المخابرات والاستطلاع التي ظلت تعمل طوال 13 شهرا حتى توصلت إلى المتهم المسؤل عن الهجوم. لذلك فإنني تمنيت ألا نكتفي بالأصداء الإعلامية وطقوس العزاء والتضامن المعلنة، وأن تؤدي أجهزة المعلومات دورها في الكشف عن المحرضين والفاعلين. صحيح أن أحد الناجين وشقيقا لواحد ممن قتلوا قال لبعض الصحف المصرية إن القتلة كانوا ثلاثة وأنهم قالوا إنهم من جماعة «أنصار الشريعة» التي نعرف أن لها حضورها في تونس، إلا أن ذلك لا يكفي، حيث لا بديل عن جهد دءوب تقوم به أجهزة المخابرات للتأكد من الجهة أو الشخص المسؤول عن ارتكاب الجريمة، كي لا يفلت من العقاب على ما فعله، ولكي لا يواصل جرائمه مع آخرين.
في هذا الصدد يحز في نفسي أن أقول إن ذلك التقاعس عن التوصل إلى الجناة ومحاسبتهم ليس جديدا، وأن ذلك حدث مع كارثتي قتل 40 من الجنود المصريين في سيناء، إذ لم نعرف من الفاعل الحقيقي وتم الاكتفاء بالتقارير الأمنية التي تكفلت الصحف بتعميمها. وقد وجدنا أن تلك التقارير عمدت إلى تصفية الحسابات السياسية بأكثر مما انبنت على معلومات استخبارية جرى التحقق منها. وفي حين وجدنا أن الاستخبارات الأمريكية ظلت تعمل طوال 13 شهرا حتى توصلت إلى من اعتبرته متهما رئيسيا، فإن أبواقنا الإعلامية سارعت إلى اتهام حركة حماس والإخوان خلال أقل من أسبوع على ارتكاب الجريمتين، في حين لم يتوافر دليل مقنع على ذلك. وقد قرأنا في وقت لاحق أنه تم قتل متهمين رئيسيين في هذه الجريمة أو تلك، لكننا فهمنا أن ذلك تم خلال غارات شنتها الطائرات على بعض المواقع، وأن قتلهم تم خارج القانون.
يعزز ما ندعيه عن القصور في أداء أجهزة المعلومات أن النيابة العامة أوردت ضمن المتهمين في قضية الهروب من سجن وادي النطرون في عام 2011 أسماء ثلاثة من أعضاء حركة حماس أحدهم (حسن سلامة) في سجون الاحتلال منذ 18 عاما، والآخران (تيسير أبو سنيمة وحسام الصانع استشهدا قبل الثورة في عامي 2008 و2009 على التوالي). وأستحي أن أذكر قصة القيادي الشهيد أحمد الجعبري، الذي ذكرت صحيفة «الأخبار» أنه وضع مخططا لتخريب مصر في مناسبة الذكرى الثالثة للثورة (في 25 يناير 2014)، في حين أن الرجل قتلته غارة إسرائيلية في عام 2012.
إن مطلبنا بسيط للغاية، وهو يتلخص في مطالبة أجهزة الاستطلاع والأمن بأن تستنفر للدفاع عن المجتمع بقدر حماسها للدفاع عن النظام ورموزه.
(الشرق 2014-03-02)