خصومة الكبار

روت كتب السيرة بعض الأحداث المتعلقة ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم عندما ابتدأت في مكة وسط معارضة شديدة من قريش، حيث كان يعتقد زعماؤها الكبار أن هذه الدعوة الوليدة تنذر بتدشين مرحلة جديدة تؤذن بتحولات سياسية واقتصادية واجتماعية كبرى، سوف تحدث أثراً حتمياً على مواقع أصحاب السيادة والزعامة، من خلال تغيير معايير القرار والاختيار، ومن خلال خلق توازنات جديدة كليّاً سوف تطيح بالزعامات التقليدية، ولذلك وقفوا موقفاً معادياً شرساً ضد صاحب الدعوة وأفكارها، واستخدموا الأساليب المعنوية والوسائل المادية المختلفة في عملية المواجهة الشاملة.
ما يجذب الانتباه في هذه الحوادث ذلك المعنى المهم الذي يمكن الوقوف عليه بتمهل وروية وعبرة، عندما استدعى عظيم الروم «هرقل» بعض العرب القادمين إلى الشام في رحلة تجارية من اجل الاستفسار عن النبي الجديد الذي ظهر في جزيرة العرب، وعن دعوته وأتباعه، حيث أراد التحقق من صدقية هذه الدعوة وهذه النبوة من خلال بعض المؤشرات وبعض الدلائل والملاحظات المستفادة من إجابات هذا النفر، وفقاً لاستطلاع ينطق بالحكمة والخبرة والرأي الثاقب، وكان على رأس الوفد العربي (ابو سفيان)، وبدأ هرقل بطرح مجموعة من الأسئلة والاستفسارات التي تدور حول سيرة الرجل (محمد صلى الله عليه وسلم)، قبل البعثة من حيث الالتزام بالصدق والأمانة، وحول أتباع الرجل هل هم من الفقراء أم من الأغنياء، وأسئلة أخرى.
ما أردت أن أقف عليه في هذه الحادثة هو موقف أبي سفيان الذي كان على الشرك آنذاك، وكان على عداء شديد مع النبي محمد عليه السلام، ومع ذلك عندما يجيب على أسئلة هرقل لم يكذب ولم يفتر على الرجل ولم يطعن بنسبه، ولم يعمد إلى تشويه صورته، وكان بمقدوره أن يطعن ويزوّر ويشوّه في سيرته ويقلل من مكانته، ولم تكن هناك محاكم تنتظره على أقواله، ولم يكن من عواقب رقابية، ولكنه كان خصماً كبيراً، يحمل كرامة العربي ونخوته وشهامته، وكان زعيماً فذّاً، يرى الكذب منقصة، ويرى الكذب يخل من مكانة الزعيم ويزري بصاحب المروءة، ولذلك يمكن أن نطلق وصفاً على هذا المستوى من الخصومة أنها «خصومة الكبار».
المشكلة في هذا الزمان أن هناك قلة من الناس، وندرة على صعيد الرجال من يلتزم أدب الخصومة، ويسلك مسلك الكبار، الذي يقدر قيمة الصدق وقيم الرجولة والمروءة، وقيم مواقع المسؤولية، ممن لا ينتسبون إلى مرحلة الكفر والشرك والجاهلية، ولذلك تجد إقبالاً شديداً على الكذب، ونهماً منقطع النظير على مسالك تزوير الحقائق وقلب المفاهيم، وتجد لدى بعضهم حبّاً شديداً لتشويه الخصم والطعن في شخصيته، بل تجدهم يشعرون بالمتعة الشديدة والتلذذ بالغيبة والنميمة.
كنت أقرأ أخباراً مزوّرة، وتم إعدادها بطريق ذكية مصحوبة بتسريب متعمد لا يحصل عليه إلّا من له صلة وثيقة بمصادر المعلومات على موقع «المصيدة» وعلى موقع «الصوت» حول محاكمات «زمزم»، لأن الأصل أن أخبار المحكمة الإخوانية ومداولاتها سريّة لا يطّلع عليها القيادات ولا يجوز التعامل مع الإعلام بهذا الشأن، فكيف تفسر القيادة هذا المسلك.
هذه المواقع التي تعمدت وصف زمزم بالانشقاقية كوصف يتم تكريره بشكل منهجي، مما يدل بشكل قطعي على التخلي المسبق عن النزاهة والحيادية، والبعد عن المهنية الإعلامية تجدها الأدنى، ولم أستطع أن أقف على خلفية ودوافع الحقد اللئيم الذي يغلف هذه الصياغة، لأني لا أعلم من هم القائمون على هذه المواقع ومن هو المموّل، وما هي الأثمان المدفوعة سلفاً.
ينبغي أن لا نضيق ذرعاً بالاختلاف ولا الخصومة السياسية أو الفكرية أو الحزبية أو التنظيمية، ولكن صدر المرء يضيق بالخصومة مع القامات القصيرة التي تفتقر إلى أدب الخصومة وأدب الاختلاف، وعبث الصغار، الذي يسيء إلى عالم السياسة ويناقض عالم القيم.
(المصدلا : الدستور 2014-03-13)