مغامرات دافيد بلفور» لستيفنسون: سيرة مواربة لكاتب مدهش

> فإذا كان ستيفنسون قد اعتبر عند بدايات القرن العشرين، ومع استشراء نزعات الحداثة الروائية المرتبطة بأنواع الايديولوجيات، متخلفاً عن ركب الحداثة هذه بعض الشيء، فإنه عاد وأنصف خلال النصف الثاني من القرن الفائت، اذ راح يعاد اليه اعتباره مرة بعد مرة، بخاصة ان فن السينما، منذ وجد، رأى في اعمال ستيفنسون كنوزاً يمكن التعاطي معها في لغة سينمائية حيوية. وإذا كانت رواية «دكتور جيكل ومستر هايد» حظيت بأكبر قدر من اهتمام السينمائيين، حيث أفلمت مرات ومرات، وإذا كانت «جزيرة الكنز» قد اعتبرت الرواية - والفيلم - المفضلين لدى اليافعين والشبان، فإن ثمة اعمالاً اخرى لستيفنسون قد تقل شهرة عن هذين العملين، ومع هذا يمكن النظر اليها كأعمال كبيرة، ادبياً وفنياً. ومن هذه الاعمال رواية له في جزءين، كان ثانيهما من آخر ما كتب قبل رحيله في العام 1894. وهذه الرواية هي تلك المعروفة تحت عنوان «مغامرات دافيد بلفور» الذي يشمل الجزءين معاً.
> صدر الجزء الاول من «مغامرات دافيد بلفور» بعنوان «مخطوف» في العام 1886، أي في العام نفسه الذي اصدر فيه ستيفنسون واحدة من اكبر رواياته «دكتور جيكل ومسترهايد». اما الجزء الثاني وعنوانه «كاتريونا» فقد صدر في العام 1893، أي قبل شهور من اصداره آخر رواية كتبها وصدرت خلال حياته «في جوف الحوت»، علماً أن لستيفنسون اعمالاً عدة صدرت بعد رحيله. والحقيقة ان «مغامرات دافيد بلفور» هي العمل الوحيد لستيفنسون الذي استغرق إنجازه وإصدار جزءيه كل ذلك العدد من السنين... بل من الصعب، في هذا المجال، حتى رصد الدوافع التي جعلته يكتب كل جزء من هذه الرواية، بالتزامن مع كتابته رواية اخرى. ولعل السبب الاول هو ان «مغامرات دافيد بلفور» التي تنتمي، في بعد من أبعادها الى عوالم تشارلز ديكنز، بقدر ما تنتمي في ما بعد الى ادب المغامرات كما صاغه ستيفنسون دائماً، تكاد تكون في بعد ثالث، ايضاً، سيرة ذاتية - متخيلة على أي حال - لستيفنسون، كتبها ذات لحظة متأخرة من حياته من دون ان يوضح علاقتها المباشرة بتلك الحياة.
> وفي الواقع ستقول لنا قراءتنا لجزءي هذه الرواية ان ثمة بين ستيفنسون نفسه، وبين دافيد بلفور، بطل الرواية في جزءيها، الكثير من القواسم المشتركة، وعلى الاقل على صعيد جوانبه الشخصية وسماتها الأساسية، كما على صعيد بعض الاحوال التي تعرض لها، والتجوال الطويل الذي قام به. ونعرف، طبعاً ان جزءاً كبيراً وأساسياً من حياة ستيفنسون جرى تحت شعار التجوال والتشرد بين البلدان والقارات. ربما بحثاً عن شيء ما يبدو انه لم يعثر عليه ابداً، وربما هرباً من شيء كان يخيل إليه انه يطارده.
> ولكن مهما كانت الحال هنا، من الواضح اننا، حتى وإن نحّينا مسألة العلاقة بين حياة ستيفنسون وجزء من حياة بلفور جانباً، سنبقى في نهاية الأمر امام رواية استثنائية، تبدأ على طريقة ديكنز، لتنتهي على طريقة جوزف كونراد وربما جاك لندن ايضاً، وهما من يشارك سيتفنسون مكانته في عالم كتابة أدب المغامرات الجوالة.
> تبدأ «مغامرات دافيد بلفور» بالفتى دافيد وقد آلى على نفسه اخيراً ان يغادر قريته الصغيرة، بعد ان اصبح موت ابيه نسياً منسياً. وإذ يخرج دافيد من ازقة القرية ويبدأ، محفظته محمولة على ظهره، ويداه في جيبيه، بذرع دروب اسكوتلندا، فرحاً مقبلاً على الحياة، يبدو عليه انه أفّاق لا يلوي على شيء، كل ما يهمه هو ان يحيا يومه بيومه. ومع هذا سرعان ما ندرك ان الفتى يتوجه الى مكان ما في اعالي ادنبورغ، حيث ثمة اراضٍ لم يكن ليعرف حتى بوجودها، هو الذي يعرف ان ثمة في مكان ما من تلك المناطق عماً له، يعتقد دافيد بأنه سيساعده على الانطلاق في حياة غنية مثمرة. والحقيقة ان كل الصفحات الاولى في الرواية تكشف لنا كم ان دافيد يضع آماله في ذلك العم، وكم انه - خارج اطار اللامبالاة الظاهرة عليه - مهتم بأن يقدم له العم عوناً حقيقياً.
> من هنا ستكون اولى خيبات امل دافيد الكبرى في حياته، ان يكتشف ان كل الآمال التي وضعها في العم ستسفر عن خيبة. فالدارة التي قصدها والتي كان يعتقدها قصراً منيفاً، لن تبدو اكثر من مبنى نصف مهدم، والعم نفسه ليس اكثر من شخص نصف مجنون بخيل. والحقيقة ان العم حين يستقبل ابن اخيه يستقبله شاهراً في وجهه بندقيته. وسرعان ما سينكشف لنا ان العم يكنّ لوالد دافيد الراحل كراهية لا حدود لها، وأنه مستعد الآن أن يحوّل هذه الكراهية الى دافيد نفسه. وهكذا، لا يجد العم امامه لمحاربة هذا الدخيل الطارئ في حياته، اذ يعتقد بأنه انما اتى لينتزع منه ثروة كان قد جناها نهباً واحتيالاً، إلا ان يدفع عصابة من الاشرار الى خطف الصبي. وإذ يغمى على الفتى، مثل يوسف بن يعقوب، سرعان ما يجد نفسه حين يفيق في قعر سفينة شراعية متجهة الى اميركا. فخاطفوه، رأوا ان في وسعهم هناك ان يبيعوه كعبد. غير ان هذا كله لن يكون سوى بداية المغامرة... وبداية حياة التجوال التي ستصنع من دافيد بلفور شخصية استثنائية، اذ انه بعد ذلك، وفي الجزءين معاً، سينتقل من مغامرة الى اخرى ومن بلد الى آخر، لا سيما في اعالي اسكوتلندا، حيث سنجده مشاركاً عصابة هنا، في حرب هناك، مع الجبليين الأجلاف حيناً، ومع اللصوص احياناً أخرى، وصولاً الى مشاركته في ثورة ضد ملك انكلترا.
> هنا عند هذا المستوى وقبل النهاية التي ستكون سعيدة ومريحة لصاحبنا في نهاية الامر، عرف روبرت لويس ستيفنسون (1850 - 1894)، هذا الكاتب الاسكتلندي البارع، كيف يجعل من روايته، رواية مغامرات من طراز رفيع. رواية تغرق قارئها في التفاصيل الواقعية وفي رسم الشخصيات، الى درجة يخيل معها للقارئ انه إزاء تاريخ حقيقي لشخصية استثنائية.
(المصدر : الحياة 2014-03-16)