الحركة الإسلامية والمراجعة الإستراتيجية

الحركة الإسلاميّة بكل تلاوينها ومدارسها، وبكل شخصياتها وقياداتها، وتاريخها وتراثها علي مساحة العالم الاسلامي كله، وبكل امتداداتها عبر دول العالم، وفى كل مسارات اعمالها ونشاطها، تمثل منجزاً جماعياً للأمة، وهي ملك للأجيال المتتالية؛ سواء المنخرطة فى صفوفها المنظمة، أو ممن يؤيدها ويتعاطف معها بجهده وفكره ومشاعره، أو ممن يعارض وينتقد مواقفها وسياساتها، فهؤلاء جميعاً شركاء فى النظر والتقويم والمراجعة، وذالك لعدة اسباب :
السبب الأول أن الحركة الإسلاميّة تستمد منهجها ونظرتها من الاسلام العظيم، الذى يمثل الاطار الحضارى والثقافى للأمة كلها بجميع مكوناتها، وتَعدّ الحركة الاسلامية مبادىء الاسلام وقواعده واصوله هي المعيار العام في الحكم علي اعمالها وأنشطتها؛ ما يؤدي -حتماً- إلى النتيجة القائلة: بأن كل من ينتمي لهذا الإطار يملك الحق بالسؤال والمراجعة والتقويم .
السبب الثاني أن الحركة الإسلامية تحمل مشروع نهضة الامة وحماية الأوطان ولا تحمل مشروعاً طائفياً أو فئوياً أو مصلحيا ولامشروعاً محدوداً بمكان أو زمان، ولذالك من حق الأمة بكل أفرادها أن يعبروا عن عنايتهم بهذا المشروع، ومقدار مايحقق من نجاح أوفشل، وذالك لعموم الأثر وشموله لكل المجتمع .
وبناء على ماسبق، فإن الحركة الاسلامية تحتاج إلى قيادات استثنائية على سوية عالية من الفكر وبعد النظر وسعة الأفق، من اجل امتلاك القدرة علي اجراء مراجعات ضرورية علي الصعيد الاستراتيجي والتكتيكي، الذى يتناول اساليب العمل، ووسائل التحرك وطرق الاتصال بالمجتمع، وكيفيات التعامل مع المتغيرات الهائلة، من اجل الوقوف على مواطن النجاح والبناء عليها، والوقوف على مواطن الفشل ومحاولة معالجتها وتلافي اثارها، ولا بد من إدراك جملة من الحقائق فى هذا السياق أهمها:
غايات الحركة الاسلامّية الكبرى وأهدافها الحقيقية تنبع من فلسفتها العميقة التي تتمثل بإعادة إحياء الأمة وبناء مشروعها الحضاري الكبير الذى يستمد روحه من الاسلام العظيم بوصفه الاطار الحضاري الواسع الذي يمثل تاريخ الامة وتراثها الثقافي وهو مصدر منظومتها القيمّية.
ومصدر ثقافتها وهويتها الجامعة، وهو يعد أهم عامل من عوامل وحدتها وقوتها وتماسكها، ومصدر عزتها وفخرها الذى تباهي به الأمم.
وبناءً على الادراك العميق والمتأصل لهذه الفلسفة العظيمة يمكننا إجراء عمليات المراجعة والتقويم، بمعني أن سياسات من يحمل هذا المشروع وأنشطتة العملية، وخطواتة الفعلية على الارض يجب أن تخدم هذه الغايات، وتنبثق من هذه الفلسفة، ويجب مراجعة اي جهد لا يصب في هذا الاتجاة ولايخدمة، فضلاً عن مصادمتها ومناقضتها.
مشروع الإحياء والنهوض يقتضي التركيز علي بناء الانسان وإعداده اعداداً متكاملاً في سياق إعادة بناء المجتمع القادر على حمل مشروع النهضة والقادر علي حمل مشروع التحريرعبر بناء الفكر الواعي المستنير، ونشر العلم وتزكية النفس وامتلاك أدوات المعرفة والوصول أو الاقتراب من هدف تمكين المجتمع، ومن خلال ذلك سوف يكون المجتمع قادراً على فرز الأطر السياسية الكفؤة التى تتنافس على خدمة الأمة وصناعة قوتها ونهضتها.
لقد استطاعت الحركه الاسلامية بالمفهوم الواسع عبر تاريخها الطويل أن تحقق جملة من الأهداف الإستراتيجية الكبرى، فقد أشعلت جذوة الوعي الفكري، وصنعت الصحوة الشبابية الواسعة، واستطاعت أن تعيد الأجيال إلى هويتها وذاتها، وتحررها من شبح الهزيمة النفسية والإنهيار المعنوي، بالتعاون مع قوى التحرر واليقظة فى صفوف الأمة، واستطاعت بناء الثقة من جديد فى نفوس الأجيال من أجل امتلاك القدرة على التحرر وإعادة بناء الذات.
ولكن فى الوقت نفسة هناك مَواطن اخفاق تمثلت في بعض المظاهر الخطيرة :
المظهر الأول يتمثل فى نسيان الغاية الكبرى، والانخراط فى معارك جزئية صرفت الجماهير عن معركة الفكر والوعى والتربية، إلى معركة التنافس على السلطة، وأصبح العنوان السياسي هو الأكثر بروزاً، وطغى على بقية المسارات؛ ما أسهم فى اجهاض الجهود الفكرية وعطل التقدم على المسارات النهضوية الأخرى.
المظهر الثانى: يتمثل بتنامي فكر التطرف والإنعزال، وتنامي الاتجاهات التى تميل إلى استخدام القوة والعنف في احداث التغييرفي المجتمع، وانخرطت فى معارك دموية أسهمت فى تعميق الانقسام فى المجتمع، وأسهمت فى تعميق الشعور باليأس والأحباط، ولم تفلح في إزالة الاستبداد والقمع والديكتاتورية في الوقت نفسه.
المظهر الثالث يتمثل بالعجز عن استيعاب عموم الناس وجموع المثقفين والعقول المجدّدة من الأجيال المعاصرة في مشروع النهوض المأمول، وحصرت الحركة نفسها في أطر ضيقة غير قادرة علي الاستثمار فى مساحة الوعي، والبناء المتراكم على ماتم إنجازة على هذا الصعيد، وذلك بفعل صعود بعض القيادات العاجزة عن فهم فلسفة مشروع النهضة بشمول، والعاجزة عن حمل هذا الميراث الضخم من الجهود العملية والفكرية والتربوية، التى بذلها العمالقة السابقون وضحّوا من أجلها.
إن مهمة المراجعة مهمة كبيرة وثقيلة، وتكتنقها الصعوبات، ولكنها ضرورة قصوى لا تحتمل التأخير وتحتاج إلى طرق أخرى في التفكير والعمل.
(المصدر الدستور 2014-03-23)