الحلقة المفقودة

المسافة التي تفصل بين الإصلاح والفوضى شاسعة وممتدة ، ومع ذلك لا يكاد بعض الناس يدرك الفارق بينهما ، وتختلط الأمور عليه نتيجة عدم إدراك النهايات البعيدة في الأفق ، إلى تلك الدرجة من الضبابية والعشى الليلي ، حيث أصاب هذا المرض عدداً لابأس به ممن يتصدرون العمل السياسي في بلادنا العربية المنكوبة .
كلنا متفقون على أن الأوضاع العربية لا تسرّ ، وهي ليست على ما يرام . سواء
أكان ذلك على الصعيد السياسي ؛ من حيث القوة والوحدة والديمقراطية والحرية، أو على الصعيد الاقتصادي من حيث القدرة على استغلال القدرات وإدارة الموارد ، وسداد الدين وتخفيض العجز وتحقيق الاكتفاء الذاتي ، أو على الصعيد العلمي والبحثي والمنافسة في مجال الإبداع والابتكار وتطوير العقل العربي ، وكذلك لسنا بحاجة للبرهنة ومزيد من الاستدلال على وجود الشمس والتذكير بالبديهيات ، كمن يعمد إلى البحث عن أثر «الضبع « وإبداء المهاراة في القصص ، في الوقت الذي نرى فيه «الضبع « عياناً بوضوح.
المشكلة تكمن فينا جميعاً ، أننا لا نبصر طريق الإصلاح ، ولا نسلكها، ولم نعدّ العدَّة الحقيقية للمسير فيها ، ولا نمتلك الإرادة الجمعية بتطوير قدراتنا وملكاتنا نحو امتلاك مهارة السير وتحملّ كلفته ، ونعمد دائماً إلى البحث عن الأسهل ، والبحث عن الأشكال والمظاهر الخادعة التي تضلل الأجيال وتخدع الأبصار .
هناك حلقة مفقودة بين الواقع والأمنيات ، يتجنب كثيرون البحث عنها ، لذلك يتم اللجوء دائماً إلى الاستمتاع بجلد الذات الدائم والمستمر ، والاستغراق في الوصف ، والحديث عن مرارة الواقع، أو الحديث عن الأمنيات التي تعشش في الخيال النائم أو العقل المستريح ، والاكتفاء بلذة النقد والانفعال، وشفاء الصدور بالسباب والشتائم، ولذة الوهم والتمثيل في مسرح الدّمى وعلى مسرح الأحلام ، والإصرار على موصلة النوم وعدم اليقظة.
الأمر الأكثر خطورة أن تتحول اليقظة إلى كابوس ، وأن يتحول الشعور بالمرارة والعجز إلى حالة من الإحباط واليأس القاتل ، وشعور بالأفق المسدودة ، والجو القاتم ، والوصول إلى الجدار، عند ذلك تتحول المجتمعات المحبطة واليائسة إلى قطعان بشرية هائمة ، تستوي الحياة لديها مع الموت ، وينتقل الحوار نحو لغة عدميّة متخشبة ، ويفرض العنف وجودة بقوة .
الحلقة المفقودة تكمن لدى القوى السياسية التي تطالب بالإصلاح بالعجز عن امتلاك البديل ، والعجز عن إعداد نفسها أولاً، وإعداد الشعب ثانياً على تمثل قيم الإصلاح .
وامتلاك القدرة على ترجمة الأماني العذبة إلى واقع ملموس ، والقدرة على تحويل الإرادة الشعبية إلى إنجاز يدبّ على الأرض من خلال البناء والحماية والاستمرار.
لا طريق نحو الإمساك بحبل النهوض والإصلاح ، إلاّ من خلال إعادة بناء الإنسان الصالح، عقلاً وفكراً، والناهض همة ونفساً ، والقادر على بناء مجتمع صالح يفرض صلاحه من خلال قدرته الجمعية على فرز الأكثر قوة وأمانة ، والأكثر حفظاً وعلماً، وفقاً لمعايير سليمة تبتعد تماماً عن المحسوبية والمجاملة ، والظلم والمحاباة ، وكل أشكال الفساد المقنع .
إن عدم إدراك الحلقة المفقودة ، يؤدي حتماً إلى انقطاع الحبل وانفراط السلسلة ، وسيؤدي ذلك إلى الفوضى العارمة لامحالة ، هكذا تقول سنن الكون الغلابة ، وإن وظيفة القوى الإصلاحية هي حماية المجتمع من الفوضى ، وحماية الأجيال من الوقوع في شرك الإحباط واليأس على أقل تقدير ،عندما تكون عاجزة عن السير بالمجتمع نحو الإصلاح المطلوب ، بطريقة سلمية آمنة ومتدرجة وموثوقة ومدروسة ومحكمة التخطيط.
(الدستور 2014-04-01)