نحن وروسيا في مواجهة الإمبريالية
فكرة فرض عقوبات غربية على دولة نووية نفطية كبرى كروسيا، على نحو ما حصل في أزمة القرم، ربما تثير هزء البعض وسخريته من الصلف الأمريكي والأوروبي، إلا أنها تطرح أيضاً، في أي قراءةٍ أكثر هدوءاً وتمعناً، تساؤلاتٍ جديةً حول طبيعة النظام الدولي الذي يتيح للدول الغربية أن تعاقب لا اقطاباً إقليمية كالعراق وإيران وسورية ومصر فحسب، بل دولاً كبرى كروسيا أيضاً.
من البديهي أن العالم شهد صعوداً اقتصادياً وسياسياً خلال العقد الأخير لدول البريكس، وعلى رأسها الصين وروسيا، وأن ميزان القوى العالمي راح يميل ضد الإمبرياليات التقليدية في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان، وأن مركز ثقل الاقتصاد العالمي راح ينزاح شرقاً وجنوباً، وان ذلك ترافق مع تزايد حضور روسيا والصين سياسياً واقتصادياً في الساحة الدولية خلال السنوات الخمس الفائتة بخاصةً، وان ذلك هو الاتجاه الصاعد للتاريخ، وأن هيمنة الإمبرياليات التقليدية إلى أفول، وهو ما أسهم بخلق أرضيةٍ دولية لصمود سورية ولصعود قوى إقليمية مثل إيران وفنزويلا.
لكن لا يجوز أن يعمينا ما سبق عن حقيقة أن ميزان القوى العالمي لا يزال يميل لمصلحة الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان والمنظومة الإمبريالية حتى الآن، مع علامات تشديد عدة تحت "حتى الآن"، رغم التغير البطيء والثابت ضد مصلحة الإمبرياليات التقليدية، ورغم الاختراقات الحقيقية التي حققتها روسيا والصين ودول البريكس وبعض القوى الإقليمية الصاعدة.
على سبيل المثال، لا يزال الاقتصاد الأمريكي هو الاقتصاد الأكبر حجماً في العالم، وقد بلغ ناتجه المحلي الإجمالي أكثر من 16 ترليون وربع ترليون دولار عام 2012، أما الاقتصاد الصيني، الذي حل في المرتبة الثانية عالمياً محل اليابان عام 2010 عقب الأزمة المالية الدولية، فقد بلغ حجمه عام 2012 أكثر بقليل من نصف الاقتصاد الأمريكي عند 8 ترليون دولار ونيف. ولو جمعنا الناتج الإجمالي لدول الاتحاد الأوروبي مجتمعة لكان أكبر من الاقتصاد الأمريكي نفسه، فيما لا تزال اليابان في المرتبة الثالثة عالمياً، بناتج إجمالي مقداره حوالي 6 ترليون دولار... ويحل الاقتصاد الروسي في المرتبة الثامنة عالمياً من حيث الحجم، بعد البرازيل.
نكرر: الاتجاه التاريخي الصاعد هو انتقال مركز ثقل الاقتصاد العالمي شرقاً وجنوباً، لكن الصورة الراهنة هي هيمنة الدول الإمبريالية على الاقتصاد العالمي. ويمثل رأس المال المالي الدولي، المتمثل بالمؤسسات المالية المصرفية وغير المصرفية، الحاكم غير المنتخب لأغلب الاقتصاد العالمي. فلو نظرنا لأكبر عشرين مصرفاً في العالم عام 2013 من حيث حجم الأصول لوجدنا أن اربعة عشر مصرفاً منها مسجلة في دول إمبريالية (ومعها استراليا طبعاً)، وأن اربعة منها صينية، وواحداً روسي، وواحداً برازيلي.
ويمثل هذا تغيراً كبيراً عن العام 2007 مثلاً، قبل الأزمة المالية الدولية، عندما كان المصرف الصناعي والتجاري الصيني في المرتبة 19 من بين أكبر عشرين مصرفاً في العالم، فيما كانت بقية المصارف ال19 الأخرى مسجلة في الدول الغربية واليابان. اليوم طبعاً اصبح المصرف الصناعي والتجاري الصيني هو الأكبر عالمياً، أي أنه قفز للمرتبة الأولى عالمياً، وبات للصين اربعة مصارف من أكبر عشرين عالمياً، كما سلف، ولكن الصورة الإجمالية هي استمرار هيمنة المنظومة الإمبريالية على المصارف، وبالتالي على حركة رؤوس الأموال الدولية.
كذلك تنعكس حيوية الاقتصاد من خلال عدة مؤشرات، منها براءات الاختراع المسجلة في كل بلد، وهنا تتربع اليابان على رأس القائمة، تليها الولايات المتحدة، ثم الصين، ثم كوريا الجنوبية، ثم مكتب براءات الاختراع الأوروبي، ثم روسيا، كندا، استراليا، المانيا، المكسيك، ثم فرنسا، ثم بريطانيا إلخ... باختصار، لا تزال معظم براءات الاختراع المسجلة عالمياً تسجل في دول المنظومة الإمبريالية، مع اختراقات حقيقية لدول البريكس ودول العالم الثالث، ولم تظهر أي دولة عربية في قائمة أول عشرين دولة في تسجيل براءات الاختراع الجديدة رغم كل خلطات الأرجيلة الجديدة وفيض فتاوى "جهاد النكاح" و"إرضاع الكبير" و"نكاح الوداع" وغيرها!
على الصعيد نفسه يشار أن الولايات المتحدة تملك ثمانية من بين أكبر عشرة شركات إعلام في العالم، أما التاسعة والعاشرة فإحداهما ألمانية والأخرى بريطانية، فلا يزال الإعلام والأفلام وتكنولوجيا الاتصالات لعبة أمريكية أساساً.
ولا شك أن الاقتصاد القوي هو أساس القوة العسكرية، فالاتحاد السوفييتي انهار بلا إطلاق طلقة واحدة جزئياً لأن رجليه الاقتصاديتين لم تتمكنا من حمل ذراعيه العسكريتين القويتين. وفي العام 2013 انفقت الولايات المتحدة 39 بالمئة من إجمالي النفقات العسكرية في العالم. ولديها اليوم أكثر من ألف قاعدة ومرفق عسكري لقواتها المسلحة خارج الولايات المتحدة، ولديها عشر حاملات طائرات نشطة، واثنتان احتياط، وثلاث قيد الإنشاء، تليها بريطانيا وإيطاليا والهند التي تملك كلٌ منها حاملتي طائرات، وتملك كل من روسيا والصين وفرنسا وإسبانيا والبرازيل حاملة طائرات واحدة لكل منها. ولا تزال الولايات المتحدة القوة البحرية الأكبر في العالم من حيث عدد السفن الحربية التي تمخر عباب المحيطات، مع صعود كبير للبحرية الصينية ثم الروسية.
ولا تزال الولايات المتحدة تضع 2150 رأساً نووياً فعالاً تحت الخدمة حالياً (من أصل 7700 راس نووي مخزن)، فيما تملك روسيا 1800 رأساً نووياً فعالاً (من أصل 8500)، وبريطانيا 160 رأساً (من أصل 225)، وفرنسا 290 (من أصل 300)، وتملك الصين 250 رأساً نووياً، كذلك تملك كل من الهند والباكستان حوالي مئة رأس نووي، وتملك كوريا الشمالية حوالي عشرة، والكيان الصهيوني حوالي مئتين، ليس من المعروف نسبة الموضوع منها في الخدمة حالياً.
وللحديث بقية حول الفرق بين مفهوم الإمبريالية ومفهوم الاستعمار، ولمَ روسيا والصين اليوم ليستا جزءاً عضوياً من المنظومة الإمبريالية التي تحاربنا وتعاديهما...