«غروب الأصنام» لنيتشه: الفكر مطرقة متعددة الوظائف

تم نشره الجمعة 18 نيسان / أبريل 2014 02:11 صباحاً
«غروب الأصنام» لنيتشه: الفكر مطرقة متعددة الوظائف
ابراهيم العريس
«ليس الإنسان سوى قطعة من المصير المحتم، وقطعة من كلّ متكامل: إذا أردنا ان نبعده عن ذلك الواقع أو نغيّره، فإن معنى هذا أننا راغبون في إبعاد هذا الكلّ وتغييره. بيد أننا من أجل تحرير العالم يتعين علينا، بالتحديد، ان نعيد الى هذا العالم براءة الصيرورة الأولى». هذه العبارات التي ترد على هذا النحو في سياق كتاب فردريك نيتشه «غروب الأصنام»، يمكن ان تشكّل، اذا ما تبحّر المرء فيها، مفتاحاً أساسياً ليس لفهم هذا الكتاب فقط، بل ربما لفهم فلسفة نيتشه ككل. ذلك ان «غروب الأصنام» حتى وإن كان ينطلق، في تكوينه الظاهري من دراسات ومقطوعات متفرقة، فإنه في حقيقته، وفصلاً بعد فصل، يمكن ان يعتبر أقرب الى ان يكون مدخلاً الى فهم فلسفة صاحب «هكذا تكلم زرادشت». ففي هذا الكتاب، ومنذ البداية، يتناول نيتشه بالنقد والتحليل مجموعة أساسية من «الحقائق» و»المسلمات» التي كانت طغت على الفكر العقلاني منذ الأغريق القدامى، ساعياً إما الى نقضها وإما إلى نقدها، أو الى اعادة تركيبها. أما الغاية الأساسية التي يتوخاها نيتشه من هذا المسعى، فإنما هي الوصول الى الحقيقة. الحقيقة التي قد يعجز العقل دوماً عن الوصول إليها، لكنها ماثلة في الوجدان، وفي علاقة المرء بتاريخه وبالطبيعة، وبالفكر في صورة عامة.
> وفي شكل عام، يبدو في هذا الكتاب، الذي نشره نيتشه في مرحلة متأخرة من حياته، أن مؤلفه يحاول اعادة تركيب مقتضيات الفكر، على ضوء نوع من العودة الى جذور الفكر في براءته الأولى. ومن هنا لا يكون غريباً ان نرى كيف أنه لا يتوانى في سبيل ذلك عن «تحطيم الأصنام» مستخدماً تلك المطرقة الرمزية التي يبني على وجودها جوهر الكتاب ككل: المطرقة التي يمكن ان تستخدم لتحطيم الوثن، أو تكون أداة للنحات، أو أداة لإصاخة السمع، وفق الظروف. ومن هنا، بسبب استخدام رمزية المطرقة هذه كان من حق بعض شارحي نيتشه ان يسمّوا الفلسفة التي يضمها هذا الكتاب «فلسفة ضربات المطرقة»!
> ينطلق نيتشه في هذا الكتاب من فكرة ان «الإنسانية قد عاشت، حتى الآن، على عبادة الأصنام: أصنام في الأخلاق، وأصنام في السياسة وأصنام في الفلسفة» ومن هنا كان يرى ان «مهمته هي فضح هذه الأصنام وتحطيمها في كل من هذه الميادين الثلاثة». ولكن ما هي هذه الأصنام، في نهاية الأمر؟ ببساطة هي تلك «الحقائق القديمة التي آمن بها الناس حتى الآن». وفي هذا السياق يصب نيتشه هجومه الأول على سقراط الذي كان قد سبق له ان تحدث عنه بشيء من الإسهاب في كتاب سابق هو «ولادة التراجيدية». فما الذي يأخذه نيتشه على سقراط؟ يأخذ عليه إفساده الروح اليوناني باسم الوصول «الى الحقيقة مهما كان الثمن»، انطلاقاً من فكرة تقول «ليـــس بالعقل وحده يحيا الإنسان». وإذ يبدأ نيتشه هجومه على «أصحاب الأصنام» بسقراط، يكون من الطبيعي له ان يصل لاحقاً الى كانط، ليهاجم ميتافيريقاه التجاوزية لأن «كل ميتافيزيقا، ولا سيما ميتافيزيقا كانط، انما تنحو الى فصل العالم الحق، أي عالم المبادئ الخالدة والتي لا يمكن فسادها، عن «عالم الظاهر» الذي هو عالم المظاهر الذي نعيش فيه هذا». وبالنسبة الى نيتشه فإن الازدواجية الكانطية بين العالم الحق والعالم الظاهر، ليست سوى العارض الذي يحدثنا عن الحياة في انحطاطها.
> وبعد أن يوضح نيتشه هذا الأمر يعود الى موضوع اثير لديه هو موضوع «الأخلاق المعادية للطبيعة» مؤكداً ان الممارسات الكنسية معادية للحياة. وأن الأخلاق ليست سوى عبث، لمجرد أنها تسعى الى أن تنمّط، تبعاً لأشكال جاهزة وثابتة، أفراداً يحملون معهم الى هذا العالم، بصفتهم اجزاء من المصير ككل، قوانين جديدة وضرورات جديدة. ولهذا يرى نيتشه ان الأخلاق تنكر العالم وتطوره. وهنا يصل نيتشه الى تحليل «الأخطاء الأربعة التي حوّلت الناس عن الطريق القويم» وهي: الخلط بين السبب والنتيجة وهو خلط يطالعنا، غالباً، في الأساليب المشتركة التي بها تتم عقلنة الأمور، وتصور خاطئ للسببية تعاد فيه الأسباب الى «أحداث داخلية» ليس لها في واقع الأمر سوى قيمة نسبية، واللجوء الى أسباب وهمية من أجل تفسير أفعالنا، والحصول على شيء من الأمان في وجه ما هو مجهول في هذا العالم وداخل ذواتنا وأخيراً مفهوم الاختيار الحر الذي يجعل الناس عبيداً لمسؤوليتهم الخاصة.
> وإذ يتوصل نيتشه الى هذا الحد في تحليله ينتقل الى انتقاد كل أولئك الذين يسميهم «فاعلو الخير للبشرية» الذين لا يفعلون «في الواقع، شيئاً آخر سوى إفساد براءة الإنسان الأولى والخاصة» سواء كان ذلك «عبر تدجين الإنسان وإضعافه» (كما يفعل القساوسة) باستثارة وعيه الدائم بخطيئته، أو عبر ترسيخ اخلاقية مثل الأخلاقية الهندوسية التي تقوم على رفع شريحة معينة من البشر يصار الى التعامل مع سواها بصفتهم كائنات دنيا في بيئة تؤدي الى ولادة اكثر الثورات رعباً.
> ونيتشه في هذا السياق لا يوفر حتى الفن، اذ إنه بعد ذلك يكتب عن «سيكولوجية الفنان» نصاً ينظر فيه الى الفن باعتباره اهم محفز على الحياة. لكنه يعلن ها هنا ان الشرط الأساس الذي لا بد من توافره للفنان قبل ان يقدم على ابتداع فنه، انما هو «الثمالة» التي تغير من طبيعة الأمور وجوهرها عبر أمثلتها. وإذ يوضح نيتشه هذا يعود مرة أخرى، من طريق الفن هذه المرة، ليرينا كيف ان الأخلاق القائمة على مبدأ الأثرة وعلى أسس الحقد والخوف من الحياة، ليست سوى أخلاق متدهورة. أما الحرية فإنها لا تعثر على منبعها إلا في الصراع وفي الألم اللذين، حين لا يحطمان الإنسان نهائياً، يعززان من قوته، جاعلانه يحس حقاً، بقيمة مسؤوليته الشخصية. أما العبقرية فإن نيتشه يعرّفها هنا بأنها مادة متفجرة تتراكم فيها قوة عظيمة.
> وهكذا إذ يتابع نيتشه على هذا النحو، دحض الأفكار والمسلّمات القديمة عبر منطقه الذي كان ساد في كتبه السابقة، ودائماً بحثاً عن مكانة في هذا الكون لإنسانه الأعلى، يصل الى خاتمة كتابه الداعية الى العودة الى الطبيعة في جوهرها... ولكن ليس الى الطبيعة كمهرب كما هي الحال عند جان - جاك روسو، بل الى الطبيعة بمعنى علاقتها بحب للمصير يسمح لنا بأن «نقبل حتى بشروط العيش الأكثر رهبة». وهنا يعرج نيتشه على غوته محيياً إياه على اعتبار أنه ذاك الذي أنجز المسعى الضخم القائم في تجاوز القرن الثامن عشر بالاستناد الى الارتباط بالطبيعة... أي عبر العودة الى تصور عصر النهضة - لا تصوّر عقلانيي القرن الثامن عشر - لمفهوم الطبيعة هذا.
> عند نشر نيتشه «غروب الأصنام» (في العام 1888) كان في الرابعة والأربعين من عمره، وكان نشر العدد الأكبر من كتبه الكبرى، ولم يبق لديه للعيش سوى سنوات قليلة، اذ نعرف انه رحل عن عالمنا في العام 1900 في فايمار، بعد احد عشر عاماً من إصابته بذلك الجنون الذي غاص فيه في سنواته الأخيرة. ونيتشه ولد العام 1844 في ريكن بمقاطعة ساكسونيا الألمانية لأب قسيس توفي باكراً. ولقد أمضى نيتشه سنوات دراسته الأولى بالغرب من ناومبرغ، وهو قبل الدراسة الجامعية اكتشف ميوله الأدبية وانضم الى جمعية «جرمانيا» ثم تابع دراسة الفيلولوجيا واللاهوت، قبل ان يقضي خدمته العسكرية. ومنذ العام 1869 صار نيتشه أستاذاً جامعياً، حتى من قبل حصوله على الدكتوراه. ومن الواضح ان ارتباطه بفاغنر، كما بباحث عصر النهضة الكبير يعقوب يوركهارت، كان ذا اثر كبير في حياته وفكره... وهو ما يمكن ان نرصده في كتبه الرئيسية التي راح ينشرها تباعاً فيثير كل منها ضجة ما بعدها من ضجة ومنها «هكذا تكلم زرادشت» و»المعرفة المرحة» و»المسافر وظله» و»إنساني... إنساني أكثر مما يجب» و»حالة فاغنر» وغيرها من كتب لا تزال تُقرأ وتُكتشف في أيامنا هذه وتلقى اعجاب الملايين، ولا سيما بفضل مزاوجتها بين روح الأدب وروح الفلسفة، بين روح الفن وروح الطبيعة.
(الحياة 2014-04-17)


مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات