اللهم إني أشكو إليك جلدَ الفاجر وعجز التقي

بهذا الدعاء عبر سيدنا عمر بن الخطاب عن مشكلة تعد من أخطر المشاكل التي تواجه الدعوات والحركات والأحزاب والتجمعات البشرية وكذلك الدوّل، تتمثل بوصول من هم ليسوا أهلاً للمسؤولية إلى مواقع القرار والتحكم بمصائر البشر، سواء كانوا من الأتقياء العجزة، أو من أصحاب الجلد والفجور.
لقد اتصلت بي إحدى الصحفيات معبّرة عن أسفها لأنها دائماً تبشرني بالأخبار السيئة، وتقول بلهجة الواثق أن هناك قراراً بفصلكم من جماعة الاخوان المسلمين، وتأتي هذه الثقة لأن أخبارها مؤكدة وموثوقة ومن رأس النبع على حد قولها، وفعلاً ثبت منذ عدة سنوات أن هناك من يسارع إلى توصيلها أخبار الجماعة وأسرارها، قبل أن تصل إلى مؤسسات الجماعة، وقبل أن تصل إلى الأشخاص المعنيين، حيث تكرر ذلك مئات المرات.
قرارات الفصل التي اتخذتها قيادة الجماعة بحق الذين اشتركوا في المبادرة الأردنية للبناء»زمزم» تمثل شكلاً من أشكال الرعونة ومجانبة الحكمة، في وقت أحوج ما تكون الجماعة فيه إلى لملمة الصف، والحرص على معالجة الخلافات وتهدئة الخواطر، واستيعاب الناس، والبحث عن الأطر الواسعة والجبهات الواسعة، وتعظيم القواسم المشتركة والتوافقات السياسية.
المشكلة الكبرى في هذا الصنف من الناس الذين يتمتعون بضيق أفق قياسي، وقصر نظر وصدور حرجة عاجزة عن استيعاب إخوانهم الذين قضوا معهم ما يزيد عن اربعين سنة، بمجرد الاختلاف بالرأي والاجتهاد، فكيف سيصدق الناس أن هؤلاء قادرون على استيعاب الاتجاهات السياسية والمكونات الدينية والاجتماعية، مما يؤدي إلى إلحاق الضرر بمستقبل الجماعة السياسي، ويطعن في مصداقيتها، ويشل قدرتها على تشكيل مساحات التعاون مع القوى الوطنية والسياسية، ومما يؤدي حتماً إلى تأثيرات سلبية على برامج الجماعة، ومستقبلها في هذه السنوات العجاف، التي تتعرض الجماعة فيها للتضييق والمطاردة في أقطار عديدة.
مبادرة «زمزم» أعلنت بكل وضوح أنها تسعى للمشاركة مع كل الأردنيين الغيارى على الوطن والمال العام، والحريصين على استقرار هذا البلد ونموّه وازدهاره، وكل الذين يبدون استعدادهم للتضحية من أجل حماية هذا التراب الأردني الطهور، من خلال بناء تيار وطني عريض قادر على تحقيق هذه الأمنيات.
مبادرة «زمزم» تعمل مع من يشاركها الرأي على بلورة المشروع الوطني الذي يعبّر عن أشواق الأردنيين جميعاً، مهما اختلفت أديانهم ومذاهبهم واتجاهاتهم السياسية والفكرية، وتدعو إلى خلق الأطر الواسعة القادرة على استيعاب أفواج الشباب والأجيال المتتابعة القادرة على العطاء وبناء الدولة الأردنية المدنيّة الحديثة.
بمنهج سلمي معتدل، يبتعد عن العنف والتطرف، ويحفظ المجتمع الأردني من الانزلاق نحو العنف ودوّامة الفوضى.
مبادرة «زمزم» تحمل فكرة الدولة المدنية في الإسلام، بطريقة فقهية أصولية موثقة، وليس من باب التكتيك ولا من جانب التهدئة في الخطاب، كما تحمل فكرة التعددية السياسية باطلاق، وفكرة المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق السياسية، وأن غير المسلمين جزء من مجتمع الدولة، يتمتعون بحق المواطنة الكاملة على قدم المساواة مع اخوانهم المسلمين في الحقوق والواجبات على الجملة بعيداً عن منطق المناورة والمجاملة أو الانحناء للعاصفة.
المبادرة تبنت فقه المرحلة الانتقالية الذي يقتضي إيجاد أطر التشارك مع كل المكونات الاجتماعية والسياسية، من أجل تحقيق عبور مجتمعي شامل نحو الديمقراطية الكاملة غير المنقوصة، حيث لا يستطيع أي طرف الاستفراد بالقرار والسلطة، مهما أوتي من قوة، ومهما ملك من شعبية عبر توافق وطني حقيقي، وبرنامج عملي واضح بلا ضبابية أو مواربة.
المبادرة تدعو إلى تطوير الخطاب، وتطوير البرامج والوسائل والأدوات، وامتلاك الطروحات والبدائل الناضجة من خلال الانخراط في مؤسسات الدولة بكل مستوياتها وفي جميع مجالاتها، ومغادرة مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة التي تصان فيها الحريات العامة والشخصية لكل مواطن بلا استثناء.
مبادرة «زمزم» تحمل فكر حسن البنا الحقيقي، وتمثل جوهره وروحه في حمل مشروع نهضة الأمة وإحيائها، وترفض اختزال هذا المشروع الكبير بمشروع مناورة ضيق يسعى إلى بعض المكاسب المجتزأة أو تحقيق بعض الأمجاد الشخصية على حساب الأمة والوطن.
«زمزم» عبر طروحاتها لم ترتكب جريمة، ولم تخالف مبادىء الجماعة وغاياتها العامة، وامتنعت منذ انطلاقتها عن اتباع منهج المناكفة ولم تتبن فكرة الانشقاق وأعلنت ذلك بكل صراحة، فلماذا عمدت فئة من قيادات الجماعة إلى أسلوب التشويه والطعن وممارسة الاغتيال لدى قواعد الجماعة ومؤيديها في الداخل والخارج، بطريقة تخلو من المروءة، وتخلو من ممارسة الكبار وشرف الخصومة.
«زمزم» لن تتوقف لحظة عن الانخراط في الهم الوطني وبذل الجهد في التعاون مع كل المخلصين على بلورة المشروع الوطني الذي يعد مشروعاً لكل الشعب الأردني، ولكل من يحمل مشاعر الولاء والانتماء لهذا التراب، وليس مشروعاً لمكوّن معيّن أو لعرق محدد أو مذهب أو اتجاه، وأن مشروع الدولة الأردنية القوية هو جزء لا يتجزأ من المشروع القومي العروبي، ومن المشروع الإسلامي العريض الواسع، ولا يتناقض مع مشروع التحرير الفلسطيني، إلّا في العقول البلهاء التي تعاني من القزامة الفكرية والضحالة الوطنية وازدواجية الولاء.
(الدستور 2014-04-21)