«الليالي المصرية» لآرنسكي: هوس شرقي لرجل الظلّ

تم نشره الثلاثاء 22nd نيسان / أبريل 2014 04:37 صباحاً
«الليالي المصرية» لآرنسكي: هوس شرقي لرجل الظلّ
ابراهيم العريس

كما حال الكثير من الحكايات المتعلقة بالأدب الروسي في شكل عام، تبدأ الحكاية هنا مع الشاعر المؤسس ألكسندر بوشكين. فصاحب «يوجين يونيغين» مرّ ذات حقبة من مساره الأدبي في مرحلة كان لا بد أن يمر بها، في تلك العقود الصاخبة الرومانطيقية من السنين، كبار المبدعين في العالم: مرحلة الانبهار بالشرق، خصوصاً بكل ما يتعلق بمصر وحكاياتها القديمة وأساطيرها، وعلى الأقل منذ العصور الفرعونية وحتى عصر كليوباترا. وهكذا كتب بوشكين الكثير من النصوص ومن بينها قصة متوسطة الطول أطلق عليها عنوان «الليالي المصرية» - تيمناً منه بالتأكيد بـ «الليالي العربية»، وهو العنوان الذي ترجمت به «ألف ليلة وليلة» إلى الكثير من اللغات الأوروبية ومنها الفرنسية التي كان بوشكين يتقنها ويكتب بها وتقول سيرته إنه كان منصرفاً إلى قراءتها يومها ويتطلع إلى محاكاتها - من هنا، عرف بوشكين كيف يجمع في نص واحد مصر كليوباترا وأجواء ألف ليلة وليلة. ومهما يكن من أمر، فإن هذا النص لا يعتبر اليوم أساسياً من بين أعمال الشاعر، و «الليالي العربية» حين تصدر، لا تصدر - في الروسية أو غيرها - إلا كجزء من مجموعات قصصية تتصدرها «فتاة الكبة» التي تفوقها شهرة بكثير. والحقيقة أن هذا الصدور المزدوج ليس وحده ما يجمع بين العملين، وذلك بالتحديد لأن «الليالي المصرية» إذا كانت قد بقيت في الظلّ أدبياً، فإنها تبدو أكثر شهرة حين تظهر بين الحين والآخر في شكل فني آخر هو الباليه. إذ هنا وحتى لو نسي كثر، أو تجاهلوا أن النص الأصلي كتبه بوشكين الذي حُوّل نصه الآخر «فتاة الكبة» إلى عمل موسيقي أوبرالي أيضاًَ، فإنهم لن ينسوا أن «الليالي المصرية» تعتبر، كباليه هذه المرة، واحداً من الأعمال الرئيسية التي تشكل مجد ذلك الموسيقي الروسي الذي لولاها لكان منسياً تماماً في أيامنا هذه، ونعني به أنطون آرنسكي.

> والحال أن «نسيان» آرنسكي له أبعاد عدة ومن ذلك أيضاً ذلك القول الذي يفيد بأنه «لولا تأثير تشايكوفسكي فيه، لكان من الصعب لأحد أن يتذكر آرنسكي». وهذا الحكم القاطع نجده وارداً في الكثير من الكتابات التي تؤرخ لحياة آرنسكي وأعماله، بحيث بات أشبه بالمسلمات، وأدى إلى اعتباره واحداً من المؤلفين الثانويين في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية. غير أن سنوات الستين من القرن العشرين شهدت، بعد أكثر من نصف قرن مرّ على رحيل الرجل، إعادة اعتبار له، لا سيما من طريق نقاد ومؤرخين راحوا يدرسون أعماله بهدوء ودقة، خصوصاً باليه «الليالي المصرية» الذي بُدئ بتقديمه وإعادة تقديمه في ذلك الحين، ليستخلصوا من دراساتهم استنتاجات تقول إن آرنسكي كانت له أصالته التي لا يمكن نكرانها، أما تأثره بتشايكوفسكي، فإنه كان حالة عارضة في حياته، هو الذي يمكن أن نفترض في شكل أكثر دقة بأنه كان مكملاً لرمسكي - كورساكوف أستاذه، أكثر منه مؤلفاً يقع تحت تأثير تشايكوفسكي.

> هكذا، بعد قطيعة زمنية طويلة عاد آرنسكي ليعتبر، إلى جانب بورودين وسكريابين وتشايكوفسكي ورمسكي - كورساكوف، واحداً من الذين طبعوا الموسيقى الروسية بطابعهم خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر والأعوام الأولى من القرن الذي يليه.

> وتقول سيرة أنطون آرنسكي، إنه وُلد عام 1861 في مدينة نوفغورود، وتلقى دراسته الموسيقية في كونسرفاتوار سانت بطرسبوغ، حيث كان رمسكي - كورساكوف أستاذه الأساسي. وهو كان في الرابعة والعشرين من عمره حين عُهدت إليه قيادة كورس وأوركسترا البلاط الإمبريالي في العاصمة الروسية، وكان منصباً أتاح له من المكانة والراحة ما مكّنه من أن يبدأ بوضع الألحان والقطع التي كان يحلم بأن يمكّنه الوقت من وضعها، خلال السنوات الأولى من شبابه. وبالتوازي مع ذلك المنصب عيّن آرنسكي كذلك أستاذاً للهارمونيا في كونسرفاتوار موسكو، وهناك كان من بين أنجب تلاميذه شبان سيصبحون لاحقاً، أعمدة الحياة الموسيقية في العاصمة الروسية، لا سيما منهم ألكسندر سكريابين، وسيرغي رخمانينوف وراينهولد غليار.

> وإذا كان آرنسكي قد بدأ حياته التأليفية بكتابة الكثير من القطع القصيرة للبيانو، وهي تلك القطع التي سيجد الباحثون قرابة كبيرة بينها وبين أعمال تشايكوفسكي، لا سيما منها بعض أجمل فقرات الكونشرتو الأول للبيانو والأوركسترا، فإنه كان في الحادية والثلاثين من العمر، في عام 1892، حين كتب موسيقى الأوبرا التي ستحقق له شهرة محلية وعالمية «حلم على نهر الفولغا»، وهو أتبعها لاحقاً بعملين أوبراليين لن يقلا عنها شهرة هما «رافائيل» (1894) و «نال وداميانتي» (1899). وعلى هذا النحو كان في وسع آرنسكي أن يطل على القرن العشرين باعتباره واحداً من أبرز الموسيقيين الروس. صحيح أن القدر لم يمهله كثيراً بعد ذلك، إذ إنه رحل عن عالمنا شاباً في الخامسة والأربعين من عمره يوم 25 شباط (فبراير) 1906، لكن حياته القصيرة أتاحت له، مع ذلك، أن يكتب، إلى الأوبرات الثلاث التي ذكرناها، والتي تعتبر عماد شهرته الأساسية، وإضافة إلى قطع البيانو المبكرة، عدداً من الأعمال البارزة ومن أهمها سيمفونيتان، ورباعيتان، وكونشرتو للبيانو، وإنترميتزو، و «ثلاثي للبيانو من مقام صغير»، وعمل للبيانو والأوركسترا بدا فيه أيضاً متأثراً بتشايكوفسكي في شكل فاضح هو «فانتازيا انطلاقاً من أغنيات روسية شعبية»، و «خماسي للبيانو». أما العمل الذي أشرنا إليه في أول هذا الكلام، أي «الليالي المصرية» فآرنسكي كتبه اقتباساً من بوشكين خلال السنوات الأخيرة من حياته، لكنه لم يقدّم للمرة الأولى إلا بعد سنتين من الرحيل المبكر للموسيقي، أي في عام 1908، ليبدو فيه هذه المرة متأثراً بأستاذه الكبير رمسكي - كورساكوف، بحيث إن ثمة مقاطع في «الليالي المصرية» تحيل المستمع مباشرة إلى القصيدتين السيمفونيتين «شهرزاد» و «عنتر» اللتين تعتبران من أجمل القصائد السيمفونية التي أبدعها رمسكي - كورساكوف في ذلك الحين. ولئن كان تقديم «الليالي المصرية» الأول في مدينة سانت بطرسبرغ، (بأداء قام به يومها عدد من كبار الراقصين الروس من أمثال آنا بافلوفا وبافيل غردت وأولغا بويئوباجنسكا، إضافة إلى راقص جديد كان يافعاً في ذلك الحين لينطلق بعد ذلك في العالم كله ويصبح واحداً من كبار الراقصين في التاريخ: فاسلاف نيجنسكي)، قد أضاف الكثير إلى شهرة آرنسكي المحلية في وطنه، وعزز رأي أولئك الذين نسبوه إلى أستاذه صاحب «شهرزاد» على الضد من أولئك الذين كانوا يرون انتماءه إلى تشايكوفسكي، فإن تقديم هذا الباليه في العام التالي وقد أُحدث فيه تعديل ارتكز على الموسيقى التي وضعها آرنسكي ليضاف إليها الكثير من المقطوعات التي كتبها للمناسبة موسيقيون آخرون، أوصل العمل نفسه إلى العالم ليتكرّس ذلك الوصول لاحقاً على يدي دياغيليف الذي جعله واحداً من أبرز الباليهات الروسية التي قدمها ضمن إطار برنامجه الباريسي الذي أوصل الباليه الروسي في شكل عام إلى العالم جاعلاً منه «أعظم حدث راقص في العالم» عند بدايات القرن العشرين تلك. ومن البدهي هنا، أن تقديم «الليالي المصرية» - الذي تحوّل اسمه إلى باليه «كليوباترا» بدءاً من أول تقديم له في العاصمة الروسية بعد العرض الأول الذي أشرنا إليه - ساهم في ترسيخ مكانة آرنسكي الذي ستبدو موسيقاه متميّزة على الدوام بطابعها الغنائي. غير أن اقتراب موسيقى هذا المبدع من تشايكوفسكي ورمسكي - كورساكوف، لم يمنع تلك الموسيقى من أن تكون أكثر انتقائية وتجريبية، بحيث إننا نجده، في نهاية الأمر، أقل وطنية وانغماساً في الفولكلور والموسيقى المحلية من أستاذيه. ومع هذا ظلت أعمال أنطون آرنسكي، طوال سنوات عدة، غير معروفة على نطاق واسع خارج روسيا. أما العملان اللذان حققا له أكبر مقدار من الشهرة العالمية، إضافة إلى «الليالي المصرية» - أو «كليوباترا» - وأحياناً من دون أن يحفظ أحد اسم صاحبهما بالكامل، فكانا «فالس مأخوذ من المتتابعة الرقم 1 لآلتي بيانو» و «تنويعات على موضوعة مستقاة من تشايكوفسكي».

(الحياة 2014-04-22)



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات