«الجزيرة الغامضة» لجول فيرن: الفكر خلف قناع الأدب

تم نشره الخميس 01st أيّار / مايو 2014 03:50 صباحاً
«الجزيرة الغامضة» لجول فيرن: الفكر خلف قناع الأدب
ابراهيم العريس

يتحدث المختصون في أدب جول فيرن وحياته، بشيء من الدهشة وكثير من التساؤل، دائماً، عن أمر توقفوا عنده طويلاً. فهم إذ قارنوا بين مخطوطتين تضم كل منهما النص الكامل لرواية «الجزيرة الغامضة» مع بعض التعديلات الطفيفة بين مخطوطة وأخرى، لاحظوا أنه في الصفحة التي يلفظ فيها الكابتن نيمو أنفاسه الأخيرة، ثمة عبارة في المخطوطة الأولى ترد على النحو الآتي: «ثم، إذ همس بكلمة استقلال، أسلم نيمو الروح بكل هدوء». أما في المخطوطة الثانية، فإن جول فيرن محا بخط يده، كلمة «استقلال» من العبارة نفسها ليكتب كلمتي «الله والوطن». في شكل عام يعزو الخبراء هذا التبديل، إلى الرقابة الصارمة التي كان الناشر هتزل يفرضها على كتابات جول فيرن في آخر أيام هذا المؤلف، ومع هذا يلفت نظرهم حقاً، أن فيرن قام بالتبديل بنفسه... وهم - أي الخبراء - على رغم انكبابهم سنوات طويلة على محاولة فهم السبب الذي كمن وراء ذلك التعديل، عجزوا عن ذلك، إذ ليس ثمة في حياة فيرن، ولا في مواقف هتزل، ولا في الأوضاع السياسية العامة في فرنسا في ذلك الحين ما يفسر الأمر، وليس ثمة ما يفسّره كذلك في أي موقف سياسي كان جول فيرن نفسه قد وقفه على رغم أنه لم يكن بعيداً من السياسة، وأكثر من هذا على رغم أن النقاد والمؤرخين كثيراً ما حللوا الأعمال الرئيسية لصاحب «رحلة إلى القمر» على ضوء ظروف ومواقف سياسية مزامنة للرجل أو لمرحلة كتابته هذا العمل أو ذاك. المهم أن النسخة التي طبعت وانتشرت بين أيدي الناس، ولا تزال تنتشر وتُطبع وتُترجم، منذ نشر رواية «الجزيرة الغامضة» في عام 1874، هي النسخة المعدلة، حيث ألغيت فكرة الاستقلال من الوصية الأخلاقية للكابتن نيمو ليتحدث هذا، مكانها، عن «الله والوطن».

> طبعاً، لا يبدل هذا الأمر شيئاً من جوهر هذه الرواية التي تتوسط مسار جول فيرن الروائي، وتعتبر في شكل عام أشبه بخاتمة لثلاثية روائية «بحرية» لجول فيرن تضم إلى جانبها، روايتين سابقتين هما «أبناء الكابتن غرانت»، بخاصة «عشرون ألف فرسخ تحت الماء» التي تبقى، في الأحوال كافة، واحدة من أجمل روايات جول فيرن وأشهرها. ونذكر هنا أن «الجزيرة الغامضة» تتألف أيضاً من قسمين هما «غارقو الجو» و «المهجور». وفي شكل عام يرى دارسو أدب جول فيرن أنه إنما حاول في «الجزيرة الغامضة» أن يقدم ما يمكن اعتباره معادلاً معاصراً لرواية «روبنسون كروزو» للإنكليزي دانيال ديفو، مع فارق أساسي، يكمن في جماعية التوجه. فإذا كان روبنسون كروزو في الرواية الشهيرة (التي يرى باحثون عرب وغير عرب بين الحين والآخر أنها تمتّ بألف صلة وصلة إلى «حي بن يقظان» للفيلسوف الأندلسي ابن طفيل)، يمثل وحده البعد الإنساني المعرفي في مواجهته للطبيعة وفرض نفسه عليها، فإن لدينا هنا في رواية فيرن خمسة أشخاص يمثلون معاً الإنسانية (ليس في حالها البدائية السقراطية - بمعنى أن المعرفة كامنة داخل الإنسان يكفي تضافر ظروف وأسئلة لابتعاثها من داخل أعماقه من دون أن يكون قد تعلمها - التي شاء ديفو التعبير عنها)، بل الإنسانية في الحال المعرفية الواضحة بمعنى أن هؤلاء الخمسة إنما هم هنا ممثلو حضارة واعية قائمة على العلم والأخلاق معاً: وهم انطلاقاً من إدراكهم لحضارتهم هذه ووعيهم إمكاناتها، يتعين عليهم هنا أن يجابهوا الطبيعة وقواها العاتية. ومن الواضح أن هذا الفارق الأساسي في الذهنية بين البشر كمجموع لدى جول فيرن، والإنسان كفرد لدى روبنسون كروزو، إنما يجعل من «الجزيرة الغامضة» رواية تعكس تماماً الذهنية الفكرية التي سادت أوروبا، وفرنسا خصوصاً، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان فيرن من أبنائها.

> فما هو موضوع هذه الرواية إذاً؟ في شكل عام تعتبر أحداث «الجزيرة الغامضة» نوعاً من الاستطراد لأحداث «أبناء الكابتن غرانت» ثم «عشرون ألف فرسخ تحت الماء» كما قلنا، من ناحية أنها تصب في نهاية الأمر وسط البحار، بل تستعيد أشخاصاً كان لهم حضورهم الأساسي في الروايتين السابقتين، حتى وإن لم تعد لهم أهميتهم السابقة هنا. والأحداث الممهدة لذلك تدور أيام حرب الانفصال الأميركية التي كثيراً ما ألهمت جول فيرن وغيره من الكتاب الفرنسيين. يومها يحدث أن أسرى كانوا وقعوا بين أيدي الجنوبيين يتمكنون من الهرب من سجنهم، ومن ثم الاستيلاء على منطاد - أو مركبة تشبه المنطاد - يبارحون بواسطته الأراضي الأميركية طيراناً. ولكن، ما إن تصل بهم الآلة إلى أجواء المحيط، حتى تجتذب بؤرة مائية مغناطيسية الآلة مسقطة إياها وفي داخلها ركابها، على شاطئ جزيرة مهجورة غامضة لا يعرف أي منهم مكاناً لها على الخريطة. وإذ يتجوّل الخمسة في أنحاء الجزيرة يكتشفون أنها صحراوية خالية من أي مصدر للحياة أو للغذاء. هكذا، يصبح همّ الخمسة (وهم المهندس سيروس سميث، والمدعو جديون سبيليت، والزنجي ناب والبحار بنكروف وأخيراً الفتى هربرت) هو العثور على ما يساعدهم على مجابهة ذلك الموقف. بيد أن حيرتهم لن تطول، ذلك أنهم إذ يتوغلون أكثر وأكثر في الجزيرة وقد وصلوا إلى قمة اليأس، يكتشفون أن الثروات فيها رائعة وكريمة. وهم إذ يطلقون عندئذ اسم لنكولن على الجزيرة، يبدون وكأنهم آمنوا جميعاً بأن العناية الإلهية هي التي أنقذتهم وأعطتهم ما أعطت. ثم بعد حين تتزاحم الأحداث والمواقف، خصوصاً أنهم في شكل مفاجئ يجدون أنفسهم أمام رسالة غامضة تتيح لهم أن يعثروا هناك على آرتون، عامل السخرة الذي كان اللورد غلينارفان قد تركه وحيداً على جزيرة صغيرة مجاورة (في رواية «أبناء الكابتن غرانت») وها هم الآن ينقذونه من مصير بائس بدا مكتوباً له. وهم ما إن يقدمون على ذلك، حتى يلوح لهم من ناحية أخرى جواب عن سؤال كان يشغل بالهم، وبال قراء جول فيرن بالتالي، بالنسبة إلى المصير الغامض - بدوره - الذي كان من نصيب المركب «نوتيليس» الخاص بالكابتن نيمو (في رواية «عشرون ألف فرسخ تحت الماء»)، إذ ها هم يكتشفون أن هذا المركب قد التجأ بطريقة غامضة إلى هذه الأنحاء، وفيه قائده الكابتن الشهير. هكذا، يتاح لمغامرينا الخمسة أن يلتقوا نيمو ويشهدوا على رحيله، إذ إنه يسلم الروح بعد فترة وجيزة من اللقاء (هامساً كلمتي «الله والوطن» بدلاً من كلمة «استقلال» كما أشرنا). غير أن نيمو لن يموت قبل أن يقدم لهم من العون ما يمكّنهم من العودة إلى وطنهم وفي صحبتهم آرتون.

> إذاً، ها نحن هنا أمام عمل لجول فيرن، يبدو في شكله الخارجي، مجرد رواية مغامرت أحادية المكان تقريباً، وفيها عدد محدود جداً من الشخصيات، وحافلاً بالمفاجآت التي كان من شأنها أن ألقت السرور في أفئدة قراء أدب فيرن الذين أدهشتهم تلك «التقنية الجديدة» التي جعلت الكاتب يحل في رواية جديدة له، ألغازاً كان تركها معلقة في روايات سابقة. غير أن الأهم هنا هو أن «الجزيرة الغامضة» لم تكن مجرد رواية ألغاز ومغامرات، بل أتت عملاً فكرياً يكاد يلخص إيمان الكاتب بالإنسان وبالفكر الإنساني القائم على سلطة المعرفة، وعلى قدرة الحضارة على أن تقدم للإنسان، ليس أجوبة نظرية فقط، بل حلولاً عملية أيضاً.

> من هنا، فإن «الجزيرة الغامضة» تقف شبه وحيدة في سياق عمل جول فيرن (1828 - 1905) من ناحية طغيان الجانب الفكري والفلسفي فيها، على الجانب الروائي، ويبدو هذا الأمر لافتاً، إذ كتب فيرن «الجزيرة الغامضة» في مرحلة من حياته ومساره تميزت بكتابته أعمالاً طغت عليها المغامرة والأحداث - مع التفاتة خاصة، وإن كانت غير أساسية - ناحية العلم، مثل «حول العالم في ثمانين يوماً» (1873) و «ميشال ستروغوف» (1876)... هو الذي كان، لعامين قبل «الجزيرة الغامضة» قد أصبح عضواً في الأكاديمية الفرنسية.

(الحياة 2014-05-01)



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات