«إيزيس» لدي ليل آدم: امرأة غريبة في ليل إيطالي

كان الكاتب الفرنسي فيليب - أوغوست فيلييه دي ليل آدم، في الرابعة والعشرين من عمره حين كتب روايته الكبيرة الأولى «إيزيس»... ولم يكن قد نشر قبلها سوى مسرحية واحدة هي «آكسل». غير ان أيّاً من هذين العملين لم يحقق النجاح المنشود. كان الشاب مستعجلاً... ولكن بما انه كان موهوباً حقاً، كان من الصعب على ما يكتب ان يصل الى الجمهور العريض ويقنعه... لأن الموهبة في الإبداع لا تعطي صاحبها اكثر من جواز مرور الى المستقبل، لا الى الذوق السائد.
> اما بالنسبة الى النخبة التي كان يمكن ان تعطي للكاتب مكانته، فإنها ما كان من شأنها ابداً ان تلتفت الى كاتب خرج لتوه من سنّ المراهقة. ومن هنا ازدادت لدى ليل آدم، أزمة كانت رافقته منذ الطفولة، يوم اكتشف انه اذا كان حقاً ينتمي الى اسرة ذات مجد، فإن اباه ضيّع ثروة الأسرة بحيث صاروا قوماً بائسين. مهما يكن فإن دي ليل آدم احتفظ من عراقة أسرته ورفعتها، باستعلاء على البشر بل كراهية للناس العاديين، لم تبارحه حتى آخر أيامه. ولعله في أدبه كله قد عبر عن تلك الكراهية بكل وضوح، مفرداً المكان دائماً لأناس مميزين يعيشون مثله، على الهامش، «طالما ان المتن مليء بالتافهين».
> وهذا المناخ اذا كنا نجده في كل اعمال دي ليل آدم... فإنه حاضر منذ روايته الكبيرة الأولى «ايزيس» والتي احتاجت الى الانتظار عقوداً قبل ان تفرض حضورها على الحياة الأدبية الفرنسية... فرضت حضورها حين لم يعد دي ليل آدم في حاجة الى ذلك الحضور... ليس لأن جمهور القراء راح يستقبل اعماله بالترحاب... معاذ الله! بل لأنه هو نفسه كان تخلى منذ زمن طويل عن الإيمان بالنجاح... في زمنه الراهن على الأقل، قائلاً ان هذا من قدر الموهوبين من كبار المبدعين: لا يُعترف بهم الا في ازمان مقبلة. ولنقل منذ الآن ان دي ليل آدم كان له ما أراد، اذ راحت شهرته تكبر خلال السنوات الأخيرة لحياته، ليعتبر من بعد موته واحداً من أبرز كتاب جيله. ولتعتبر «ايزيس» الى جانب اعمال اخرى له، رواية مميزة سبقت عصرها.
> ومع هذا، لا بد من ان أي قارئ عربي لـ «ايزيس» يمكنه بسرعة ان يرى انها لم تسبق عصرها، بل جاءت متأخرة عصوراً، عن عصرها الحقيقي: فهي رواية تنتمي الى الماضي لا الى المستقبل. وإذا كان ثمة ما يشبهها في الماضي، فإنما هو بعض روايات ألف ليلة وليلة، علماً أن دي ليل آدم، في معظم اعماله التالية، كان يبدو تلميذاً شاطراً لليالي العربية، من ناحية الغرابة الطاغية على احداث رواياته، والسمات التي تطبع شخصياته على وجه الخصوص. ومهما يكن فإن عنوان «ايزيس» نفسه يحيلنا على الشرق في شكل او آخر: الى الشرق الفرعوني بالطبع. حتى وإن كان استخدام الكاتب للاسم، ليس هنا الا على سبيل الكناية.
> اما بطلة الرواية فلا تدعى إيزيس... بل فابريانا. ولكن قبل الوصول الى فابريانا هذه، سيكون من الأفضل ان نعود الى بداية الرواية... لأن فابريانا لم يكن لها أي وجود عند تلك البداية... ستأتي لاحقاً. لكنها ستكون المسيطرة على المناخ كله منذ وصولها. ولنعد هنا الى البداية. الى عالم نهاية القرن الثامن عشر. الى يوم وصل الى مدينة فلورنسا الإيطالية الكونت الشاب الوسيم والثري، الذي ينتمي من ناحية أبيه الى عائلة أمراء هنغاريين، ومن ناحية امه الى واحدة من اكبر اسر النبلاء في ايطاليا. وهذا الكونت الشاب ويدعى فلهلم دي سترالي داتاش، يلتقي ذات امسية اثر وصوله الى المدينة الراديكالية العريقة اميراً عجوزاً يدعى الأمير فورسيني. وما ان يلتقي الكونت الشاب والأمير العجوز، حتى تقوم بينهما صداقة، ويعلم الكونت فلهلم، ان صديقه على وشك التوجه الى مدينة نابولي في الجنوب الإيطالي لأن لديه بعض شؤون يتوجب عليه ان ينجزها هناك.
> وفي ما وراء الصداقة الفورية التي تقوم بينهما، يبدو الأمير مهتماً اهتماماً خاصاً بالكونت الشاب، لذلك، يتفق معه، بعد ساعة، على ان يلتقيا غداً في موعد تعمّد الأمير إحاطته بقدر كبير من الغموض. وإذ يلتقيان في مساء اليوم التالي بالفعل يتنزهان في شوارع المدينة وأزقتها، وقد صار محور حديثهما هذه المرة، وجود امرأة غريبة من نوعها تدعى المركيزة فابريانا. وخلال التجوال يروح الأمير العجوز مطنباً في الحديث المشوّق حول هذه السيدة ذات الجمال الفائق... لكنه يستدرك قائلاً، ان الجمال ليس كل ما تملكه هذه المرأة الاستثنائية، بل انها تملك من المزايا والمواهب ما لا تمتلكه اية امرأة اخرى في العالم. ويزيد الأمير قائلاً ان هذه السيدة تعيش في الوقت الحاضر من دون حب، على رغم توقها الى الحب... وذلك بكل بساطة لأن الرجل الذي سيكون جديراً بحبها يجب ان يمتلك الكثير من المزايا، بل يجب ايضاً ان يتعب كثيراً قبل ان يفوز بقلبها. ويبدو من الواضح على الكونت فلهلم انه انبهر تماماً بذلك الحديث، وصار تواقاً الى لقاء تلك المركيزة مهما كلفه الأمر. واضح ان الأمير العجوز قد سحره وتمكن من الاستحواذ عليه. وتكون النتيجة ان الأمير فورسيني، اذ يلح عليه فلهلم بذلك، يصطحبه معه من فوره لزيارة فابريانا. وهكذا يجتمع الثلاثة معاً... وبعد التعارف يتخذ الحديث بينهم رنة في منتهى الصراحة: يتحدث الأمير وفابريانا، امام فلهلم، عن ان الوقت قد حان للاستيلاء على عرش نابولي. فإذا كان في الإمكان العثور على شخص يصلح لأن يوضع على هذا العرش مكان آل بوربون، يمكن البدء فوراً في تسوية الأمور. وسرعان مايبدو فلهلم، بكل وضوح، مرشحاً جدياً لهذا المنصب... شرط ان ينال رضى وقبول الكونتيسة التي ستفتح له الطريق الى قلبها وإلى العرش في آن معاً.
> غير ان فابريانا، وكما قلنا، ليست امرأة عادية...انها امرأة غاية في الغرابة. وليس فقط من ناحية تصرفاتها او من ناحية الغموض الذي به تحيط كل حركاتها وسكناتها، بل ايضا، كذلك من ناحية المصادر الغريبة للعلوم والمعارف والاهتمامات الفكرية التي تمتلكها... اذ سنعرف بسرعة انها، ومنذ كانت طفلة، كانت كاملة الاستعداد لتلقي كل علم وفن. لذا لا يعصى عليها الآن أي موضوع فلسفي او رياضي او طبي، او في الكيمياء... كل الفنون والآداب في متناول يدها... فإذا اضفنا الى هذا انها تحسن ايضاً المبارزة بالسيف، سنجدنا امام شخصية من الصعب مضاهاتها. فماذا اذا علم الكونت الشاب ايضاً ان هذه السيدة تتنكر كل ليلة في ثياب رجل لتتجول في المدينة مقدّمة العون الى المحتاجين شافية المرضى؟ لكن السيدة في مقابل هذا تعيش حزناً عميقاً: انها تعيش من دون حب يملأ عليها حياتها... ولا أحد يهتم بها حقاً سوى خادمتها وهي عبدة يونانية يبدو واضحاً انها مستعدة، حتى لقتل نفسها من اجل سيدتها. وفي وحدتها هذه تتجول المركيزة في قصرها كالشبح في كل وقت باحثة عن سعادة لا تعثر عليها ابداً... وكانت تعرف انها لن تعثر عليها حتى يظهر فلهلم في حياتها... فهل غيّر ظهوره هذه الحياة؟ وهو، اذ يكتشف امامه هذه المرأة الغامضة، هل سيصدق انها حقيقية ام سيذهله ان يدرك انها ليست في حقيقتها سوى شبح قادم من العصور القديمة؟
> هنا، في الإجابة عن هذه الأسئلة عند نهاية هذه الرواية الغرائبية تكمن موهبة دي ليل آدم (1838-1889) الذي تميّزت رواياته دائماً بقدر كبير من الغموض... حتى وإن كان اهتمامه بما يحدث في الرواية ليس كبيراً. فالمهم بالنسبة اليه هو خلق الأجواء ورسم الشخصيات... لأن هذا هو المهم في الأدب في رأيه. وينطبق هذا على اعمال كثيرة له مثل «حكايات قاسية» و»الحب الأسمى» و»آلة المجد» و»حكايات قاسية جديدة»، وغيرها من كتابات ستجعل من دي ليل آدم، طوال حياته، كاتباً ملعوناً وغريباً في الوقت نفسه.
(الحياة 2014-05-02)