«ذكريات حياتي الميتة» لجورج مور: الإرلندي المنشقّ يجلد ذاته

أكثر مما اشتهر برواياته ومسرحياته وقصصه القصيرة، اشتهر الكاتب الإرلندي جورج مور، بالكثير من كتب المذكرات والذكريات التي كان لا يتوقف عن إصدارها خلال هذه الفترة أو تلك من فترات حياته. وهي كتب كان يتحدث فيها عن فصول تلك الحياة بمتغيراتها ومغامراتها وآفاقها. وغالباً ما كانت هذه النصوص تأتي لتبرّر أو تفسر تغيراً ما كان قبل ذلك طرأ على حياة هذا الكاتب الذي يكاد يكون شبه منسي في أيامنا هذه. وهو شبه منسي لأسباب سياسية وإيديولوجية لا لأسباب فنية. وربما لأنه خلال السنوات الأخيرة من حياته (ومنها عشر عاشها في دابلن، وهي السنوات التي أصدر فيها كتب ذكرياته ومذكراته الرئيسة)، كتب يقول ذات مرة معلقاً على نصوص له نشرها حول أهل دابلن وحياتهم الاجتماعية: «ان نصف دابلن خائف من ان يكون مذكوراً في الكتاب، والنصف الآخر خائف من ألا يكون مذكوراً».
> فإذا أضفنا الى هذا ان جورج مور، من الناحية السياسية الإرلندية وقف باكراً مع أنصار المعاهدة مع بريطانيا، - على خلاف أخيه الذي عاداه منذ ذلك الحين -، ثم عمد بعد ذلك الى اعتناق البروتستانتية بديلاً من كاثوليكية آبائه وأهله وأمته، يمكننا ان نفهم سبب عزلته، وصعوبة اعتبار الإرلنديين له واحداً من ممثليهم في تاريخ الأدب. وهنا في هذا الإطار قد يكون مفيداً ان نذكر ان الإنكليز بدورهم لم يحبوه كثيراً، وبالتحديد لأنه خلال المراحل الأولى من حياته كان معادياً لهم في كتاباته كما في تصرفاته. فمن بقي له؟ الفرنسيون... هؤلاء الذين عاش بينهم طوال سنوات عدة في سبعينات القرن التاسع عشر، وتأثّر بأدبهم وكتب عن بروز النزعة الانطباعية في الفن في أوساطهم، ثم لاحقاً حين كتب رواياته الكبرى، بدا كثير التأثر بواقعية إميل زولا الطبيعية الى درجة انه اعتبر اول كاتب خارج اللغة الفرنسية حاكى أجواء صاحب «جرمينال» و «نانا» في أعماله.
> وإذا كنا نذكر هنا كتب جورج مور التي كرسها للذكريات والمذكرات، سنقف بالتحديد عند الكتاب الأشهر بين هذه الكتب... وهو الكتاب الأبقى حتى اليوم: «ذكريات حياتي الميتة»، وهو الكتاب الذي صدر للمرة الأولى في لندن عام 1906، حاملاً عنواناً ثانوياً هو: «شذرات، تأملات وذكريات نابعة من الداخل مع نصائح الى العشاق وأفكار متنوعة حول الفضيلة والجدارة». والحقيقة ان هذا العنوان الثانوي الطويل، قد يبدو حاملاً قسطاً لا بأس به من الادعاء... لكنّ تفحصاً للكتاب سيرينا ان العنوان يعكسه بالفعل. ومن الواضح في الوقت ذاته ان مور الذي كتب نصوص هذه الذكريات ونشرها في المرحلة التي كان أنجز فيها انتقاله الطوعي من الكاثوليكية الى البروتستانتية، شاء هنا ان يصفّي حسابه، ليس مع الآخرين وليس مع أبناء جلدته، إنما مع نفسه ومع ماضيه. وحسبنا ان نقول هنا ان مور، بعدما أصدر هذا الكتاب وبعدما لاقى ما لاقى من ردود فعل عليه، ولا سيما في إرلندا نفسها حيث لم يعجب «أبناء جلدته» بكتابه هذا أيّما إعجاب، وجد نفسه ينتقل الى العيش في لندن ليبقى هناك حتى آخر حياته، غير ناسٍ ان يزور باريس - ولكن ليس إرلندا - بين الحين والآخر.
> كما يشير عنوان «ذكريات حياتي الميتة»، يتألف الكتاب من عدد كبير من النصوص والشذرات والفصول، التي يروي فيها جورج مور ذكرياته عن السنوات والعقود السابقة من حياته. وكان من الواضح انه يعتبر تلك الحياة السابقة حياة «ميتة» بسبب التبدل الجذري الذي أجراه لاحقاً على حياته وأفكاره. ومن هنا ما يتّسم به الكتاب، في صفحاته وفصوله، من اسلوب يبدو منفصلاً تماماً عن تلك الحياة. يصفها الكاتب متحدثاً عنها من دون أي حنين خاص. ولكأن جورج مور هنا يحكي، بطريقة زولا الموضوعية - الطبيعية، عن شخص آخر عرفه وتسلل الى داخل حياته، راغباً في ان يجد في فصول تلك الحياة وثناياها، ما يبرر وجوده الراهن. ومن المرجح ان هذه «البرودة» في التعاطي مع الذكريات، معطوفة على «موضوعية» سابقة كانت لاحت عند الكاتب في مجموعة كبيرة من قصصه القصيرة التي تناول فيها شخصيات من دابلن وعلاقات له كان قد أقامها فيها، تضافرت لتحدث تأثيراً من الممكن دراسته على حدة، في أدب مواطن كبير من مواطني جورج مور، هو جيمس جويس. ذلك ان كثراً من النقاد والدارسين يرون دائماً ان جويس ما كان في إمكانه ان يكتب مجموعة قصصه الشهيرة «أهل دابلن» - والمختلفة جذرياً عن رواياته الكبرى «يوليسيس» اسلوباً وموضوعاً - لولا قراءته المعمقة لنصوص جورج مور، غير ان هذا موضوع آخر.
> هنا موضوعنا هو العودة الى «ذكريات حياتي الميتة»، الذي يكاد يكون من أكثر كتب جورج مور تعبيراً عن أدب هذا الكاتب وشخصيته، بل حتى نظرته الى أدبه. فهو في هذا الكتاب، يعود - حتى بالصيغة الموضوعية التي نتحدث عنها - الى توازن في الرؤيا متضافر مع اقصى ما كان في إمكانه ان يعبّر عنه من داخل ذاته: إنه هنا يعيد النظر في ماضيه بتبصّر عميق وفهم لمّاح. وكأنه أراد هنا ان يطبق على النص المكتوب، ما كان اصدقاؤه وزملاؤه الرسامون الانطباعيون، الفرنسيون بخاصة، طبّقوه في لوحاتهم: وصف ما هو أمامهم كما هو، ولكن عبر مرشح الروح المتفاعلة مع المشهد. وهكذا مثلاً، حين يصف جورج مور في أحد فصول الكتاب، يوم احد أمضاه في لندن، أو أسراب الحمام المحلقة فوق حديقة باريسية عامة، أو بؤساء منطقة «دراري لين»، أو حتى نادلة في مقهى للفنانين في الحي اللاتيني الباريسي، يكاد المرء يشعر من خلال وصفه القلمي انه امام لوحة سردية ملونة، رسمها قلم فنان مرهف الأحاسيس، لكنه لا ينسى ولو للحظة ان عليه ان يصف انطلاقاً من داخل روحه، مشهداً يقف منه موقف المتفرج الغريب عنه. ان مور هنا يكتب وهو مهتم تماماً بأن يعطي قارئه فرصة التماهي مع نظرته الى المشهد، أكثر مما يطلب منه ان يتماهى مع المشهد. وفي كلمات أوضح، يبدو الكاتب هنا وكأنه يمسك بيد قارئه طالباً منه ان يشاركه في النظر الى المشهد الطبيعي أو الى الشخص الذي يدور الحديث عنه وما الى ذلك. والحقيقة ان لعبة جورج مور كلها تقوم هنا، في هذا الانفصال المقصود الذي يريد ان يحققه بينه وبين كل ما يصف... ذلك انه يعتبر ان هذا الانفصال عن الذكريات ومشاهدها، هو الشرط الاساس لولادته الجديدة من رحم حياته التي انتهى امرها و «ماتت» بالنسبة إليه وهو هنا ليس ليؤنبها، او ليتحسر عليها، بل ليضعها في متحف الذكريات البارد الجو لا أكثر.
> ومن المؤكد ان هذا التفسير لعلاقة جورج مور (1852 - 1933) بكتابه هذا، ينطبق على علاقته بالكثير من كتب الذكريات التي وضعها طوال النصف الثاني من حياته، ومن أبرزها، الى ما ذكرنا: «مرحباً ووداعاً» و «اعترافات شاب» ثم اخيراً «تواصل مع اصدقائي» الذي صدر بعد رحيله. وجورج مور الذي ولد في إرلندا لأسرة ثرية من اصحاب الأراضي، مات في لندن كما ذكرنا. وهو منذ يفاعته كان يريد ان يصبح رساماً، - ما يفسّر ربما ما نلمّح اليه هنا من كونه أديباً كان يرسم بالكلمات - غير ان إقامته في باريس سنوات عدة واختلاطه بالفنانين الطليعيين فيها احبطا كما يبدو، رغباته الفنية، لكن في المقابل أيقظا لديه ملكات أدبية سرعان ما سيطرت عليه. وهو كتب الرواية والشعر والقصة كما كتب للمسرح أعمالاً قدمت في إرلندا كما في بريطانيا، ومع هذا تبقى كتبه الكثيرة والتي تتضمن ذكرياته ومذكراته واعترافاته، أشهر أعماله وأكثرها انتشاراً بين قرائه، قديماً وحديثاً وإن كان عدد قرائه تضاءل كثيراً خلال العقود اللاحقة من القرن العشرين.
(الحياة 2014-05-08)