أفريقيا وتحديات النهوض

لا شك أن معظم الأزمات التي تعاني منها أفريقيا اليوم ترتبط بميراث الفترة الاستعمارية وغياب القيادة الصالحة، بالإضافة إلى سوء إدارة الدولة وتفشي الفساد.
وقد عبرت الراحلة الكينية وانجاري ماثاي، الحائزة على جائزة نوبل للسلام عام 2004، عن هذه الرؤية في كتاب مهم ترجم إلى العربية وصدر مؤخرا في الكويت بعنوان "أفريقيا والتحدي" نأمل أن يجد هذا الكتاب الاهتمام المناسب من قراء العربية والمهتمين بالشؤون الأفريقية.
ولعل ما يلفت النظر والاعتبار أن ثمة حديثا عن إمكانيات النهوض الأفريقي يقابله حديث آخر ذو نزعة تشاؤمية يشير إلى التحديات الخارجية والداخلية التي تجعل من هذا النهوض أمرا عصيا على التحقق.
وطبقا للغة الأرقام والمؤشرات، فقد شهدت أفريقيا زيادة في الدخل الحقيقي بنسبة تتجاوز 30%، وهو ما يصحح التراجع الذي شهدته بلدانها خلال العقدين السابقين، كما تبلغ نسبة النمو المتوقعة في إجمالي الدخل القومي نحو 6% خلال السنوات العشر القادمة.
ويوجد في أفريقيا سبع دول تعد بين الدول العشر الأسرع نموا من الناحية الاقتصادية في العالم.
فما الذي حدث خطأ إذن؟ وما هي معوقات هذا النهوض الأفريقي؟ نستطيع الإشارة إلى بعض ملامح الإجابة من خلال استعراض نماذج التكالب الدولي على الثروات الطبيعية الأفريقية وفشل النخب الأفريقية الحاكمة في تحقيق غايات التنمية المنشودة.
عسكرة السياسة الأميركية
قام وزير الخارجية الأميركي بجولة أفريقية خلال الفترة من 29 أبريل/نيسان حتى 5 مايو/أيار 2014 شملت إثيوبيا والكونغو الديمقراطية وأنجولا وجنوب السودان، وتعكس هذه الزيارة اتجاها أميركيا عاما يتبنى خطابا رومانسيا تجاه أفريقيا الجديدة وفقا للمعايير الغربية.
لقد دعا جون كيري الأفارقة إلى تبني الخيار الديمقراطي وتحقيق الاستقرار الاقتصادي وفق مبادئ الليبرالية الجديدة، ونبذ العنف والدخول إلى فضاءات عالم الحداثة الخلاقة. إنها شوفونية غربية لا تعكس النوايا الحقيقية لإدارة أوباما في أفريقيا.
وبينما كان الوزير الأميركي يهم بالعودة إلى بلاده كان الرئيس أوباما يجتمع في البيت الأبيض مع رئيس جيبوتي إسماعيل عمر غيلة لبحث التعاون الأمني بين البلدين.
وقد استطاعت الولايات المتحدة تمديد عقد إيجارها لقاعدة ليمونيه العسكرية في جيبوتي لمدة عشرة أعوام أخرى. ومن المعروف أن جيبوتي، وهي دولة عضو في جامعة الدول العربية، تعد مركز انطلاق إستراتيجي مهم للولايات المتحدة في حربها ضد "الإرهاب" في كل من أفريقيا وشبه الجزيرة العربية ولا سيما في كل من اليمن والصومال.
ويضم معسكر ليمونيه حوالي أربعة آلاف جندي أميركي بما يجعله القاعدة العسكرية الأميركية الدائمة المعلن عنها في أفريقيا. وتشكل قيمة الإيجار السنوي البالغة 38 مليون دولار أحد أهم مصادر الدخل القومي لجيبوتي.
وبغض الطرف عن رومانسية الخطاب الأميركي المتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن المصالح الأساسية للولايات المتحدة الأميركية تتمثل في الوصول إلى مصادر الثروة والموارد الطبيعية ولا سيما النفط والغاز الطبيعي، ومحاربة "الإرهاب" ومواجهة النفوذ الصيني المتنامي في أفريقيا.
ومن الواضح أن جولة جون كيري قد فشلت في تحقيق بعض أهدافها في كل من جنوب السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية حيث لم تلتزم القيادة الحاكمة في البلدين بمبادئ التحول الديمقراطي.
ولعل رفض بعض الحكومات الأفريقية لفكرة المشروطية السياسية التي انطوى عليها حديث جون كيري قد وضع إدارة أوباما أمام مأزق حقيقي، فإما أن تحاول تحقيق مصالحها الاقتصادية والإستراتيجية مع حكومات تسلطية لا تلتزم بحكم القانون، أو أن تظل في المقاعد الخلفية لسباق التكالب الدولي على الثروة والنفوذ في أفريقيا.
ويبدو أن القمة الأفريقية الأميركية الأولى التي سوف تنعقد بواشنطن في أغسطس/آب القادم تستبطن دفع الجهود الأميركية لأن تتبوأ مركز الصدارة في لعبة الأمم المتعلقة بأفريقيا.
الاختراق الصيني الناعم
لقد أضحى تقليدا متبعا في الصين منذ بداية اهتمامها بأفريقيا أن يقوم كل من رئيس الدولة ورئيس الوزراء وغيرهما من كبار المسؤولين بزيارة أفريقيا للتأكيد على عمق المصالح المتبادلة بين الصين وأفريقيا.
لم يكن غريبا أن يبدأ رئيس الوزراء لي كي تشيانغ جولة أفريقية شملت إثيوبيا ونيجيريا وأنجولا وكينيا ابتداء من 4 مايو/أيار 2014.
ولعل أبرز ما يميز الدور الصيني في أفريقيا عن نظيره الأميركي أن الولايات المتحدة لديها مشكلات تتعلق بعجز الميزانية، وهو ما يقيد حركتها الأفريقية، فضلا عن وجود جماعات مدنية وحقوقية تطرح دائما مشكلة الديمقراطية وحقوق الإنسان في العديد من البلدان الأفريقية.
أما الصين فإن لديها المال والإرادة السياسية فضلا عن غياب المعارضة الداخلية، وهو ما يحرر سياستها الأفريقية من أي التزامات تتعلق بمسائل الحريات وحقوق الإنسان.
وتعد الصين أكبر شريك تجاري لأفريقيا منذ عام 2009 حيث بلغ حجم التجارة الثنائية نحو 11 مليار دولار عام 2000، ثم ارتفع هذا الرقم ليصل إلى ما يقرب من ستين مليار دولار عام 2006 ، ثم إذا به يقفز إلى نحو 210 مليارات دولار عام 2013، كما ارتفعت الاستثمارات الصينية في أفريقيا إلى نحو ثلاثين ضعفا في العقد الماضي.
وقد تعهد رئيس الوزراء لي تشيانغ بزيادة خطوط الصين الائتمانية في أفريقيا بنحو عشرة مليارات دولار، فضلا عن دعم بلاده لصندوق التنمية الأفريقي الصيني بنحو ملياريْ دولار، ومن جهة أخرى تعهدت الصين بنقل التكنولوجيا المتقدمة للمساعدة في بناء وتطوير مشروعات السكك الحديدية فائقة السرعة في أفريقيا.
ومن الواضح تماما أن الخطاب الصيني الذي يعتمد على أدوات القوة الناعمة، مثل الدبلوماسية الشعبية والثقافية والمساعدات الاقتصادية والإنسانية، يدرك تماما أن النموذج التنموي الصيني يمثل بديلا مقبولا لدى الأفارقة.
وقد رفض رئيس الوزراء تشيانغ المخاوف التي أثارها البعض في الغرب وفي أفريقيا من أن تصبح الصين قوة استعمارية في أفريقيا، وذلك بقوله "الصين لن تسلك أبدا المسار الاستعماري الذي سلكته بعض الدول في الماضي في أفريقيا، ولن تسمح بإعادة ظهوره في أفريقيا".
ومع ذلك، هناك انتقادات لوجود الصين في أفريقيا. يقول بعض المحللين إن جهود الصين في أفريقيا -ابتداء من القيام بمشروعات البنية التحتية ووصولا للإعفاء من مليارات الديون المستحقة على الدول الأفريقية- هي من قبيل النوايا الحسنة للحصول على فرص استثمارية في وقت لاحق، أو الحصول على الدعم الدولي لقضايا سياسية مثيرة للجدل.
يعني ذلك أن الصين تلعب لعبة طويلة الأمد بهدف الاستحواذ على النفط والمواد الخام الأخرى في أفريقيا، وتأمين الحلفاء الذين سيصوتون لها في الأمم المتحدة. فالمشكلة الأساسية التي تواجه أفريقيا هي الحكم الرشيد، وليس مجرد عدد الطرق أو الموانئ التي تبنى بأموال وخبرات صينية.
وعلى سبيل المثال، لاتزال التجارة بين الجانبين غير متوازنة حيث إن العجز التجاري يميل دوما لصالح الصين. كما تقوم الصين بمساعدة الدول المارقة والنظم التسلطية في أفريقيا.
ويلاحظ أن الاستثمارات الصينية في القطاعات الحساسة بيئيا، مثل الغابات والزراعة وصيد الأسماك والنفط والغاز، قد حفزت المشاعر المناهضة للصين في العديد من البلدان الأفريقية.
وقد تسببت مشاريع التعدين الصينية أيضا في خلق مشاكل بيئية خطيرة، ومما يزيد الطين بلة أن زيادة الطلب في آسيا على قرون وحيد القرن والعاج أدت الى التورط في التجارة غير المشروعة في مجال الحياة البرية في أفريقيا.
وتشير بعض التقارير إلى عدم اهتمام الشركات الصينية بتحسين بيئة العمل للأفارقة بالإضافة لقيامها بجلب العمالة الصينية الرخيصة، وهو ما يؤدي إلى عدم تحسين ظروف العمالة الأفريقية.
وعلى أية حال، فإنه من الواضح تماما أن الوجود الصيني في أفريقيا على المدي البعيد سوف يكون عاملا مهما في تقويض الهيمنة الأميركية والغربية، وهو ما يفرض على الأفارقة أنفسهم تحديا مهما من أجل فرض شروطهم لإقامة علاقة شراكة متكافئة مع الصين بحيث لا تتكرر خبرة الماضي الاستعماري مرة أخرى.
التحديات الداخلية
لا شك أن التحديات الخارجية المرتبطة بمعارك التكالب الدولي على أفريقيا ترتبط بها مجموعة من التحديات الداخلية التي أشارت إليها وانجاراي ماثاي، وهو الأمر الذي يجعل نهوض أفريقيا أمرا عصيا.
ولعل أبرز التحديات الداخلية تتمثل في الحروب والنزاعات المسلحة العنيفة مثل ما يحدث في جنوب السودان وأفريقيا الوسطى والكونغو الديمقراطية . كما تشكل الراديكالية الإسلامية العنيفة كما هو الحال في نيجيريا والصومال وشمال مالي معوقا آخر أمام إعادة بناء الدولة الأفريقية.
بيد أن تفشي الفساد والاستيلاء على المال العام يحرم الأفارقة من الاستفادة من ثروات بلادهم. وطبقا لتقارير الاتحاد الأفريقي فإن نحو 184 مليار دولار تضيع هباءً كل عام في أفريقيا نتيجة الممارسات الفاسدة.
لقد أضحت مهمة النخبة الحاكمة هي نهب الخزانة العامة واستثمار الغنائم في البنوك الأجنبية. وقد أدى ذلك إلى استخدام توصيف "سلعنة السياسة" في الممارسة السياسية الأفريقية.
وطبقا لجان فرنسوا بايار فإن اصطلاح "ملء البطون" يعد المدخل الأنسب لفهم سوسيولوجية الدولة الأفريقية بعد رحيل الاستعمار. يعني ذلك أن السياسة تعد المدخل الأساس إلى الثروات الطائلة، والتنافس على السلطة يصبح شرسا وعنيفا. فالهزيمة يمكن أن تعني النفي أو السجن أو الموت جوعا.
أما أولئك الذين يفوزون بجائزة السلطة فإنها تترجم إلى مناصب رئيسية تمنح لأفراد قبيلتهم، أو المقربين والمؤيدين لهم.
ولعل ذلك كله يظهر أن التحدي الأكبر الذي تواجهه أفريقيا اليوم يتمثل في طبيعة أجهزة الدولة الوطنية التي تعد بحق موطن الداء.
ما العمل إذن لمواجهة هذه التحديات وتمكين أفريقيا من اللحاق بآسيا الناهضة؟ إننا نذهب مع الاقتصادي الغاني جورج آيتي في قوله بضرورة تولي جيل جديد من الشباب الأفريقي المتعلم (جيل الفهود بحسب قوله) زمام المسؤولية بدلا عن النخب الحاكمة الفاسدة.
إنهم بالفعل موجودون ويعملون في العديد من المجالات مثل الزراعة والقطاع غير الرسمي، وتكنولوجيا المعلومات، والتصنيع، وحتى في الحكومة. ولكن ينبغي على هؤلاء الشباب أولا: بناء وصقل مهاراتهم وزيادة تراكمهم المعرفي قبل التصدي لسؤال السلطة والحكم. وذلك هو أمل أفريقيا الجديد.
(الجزيرة 2014-05-13 )